يتابع ثلاثة من أشهر مؤرخى فرنسا، هنرى لورنس وجون تولان وجيل فينشتاين فى كتاب ضخم بعنوان «أوروبا والعالم الإسلامى.. تاريخ بلا أساطير» والذى نقله إلى العربية بشير السباعى والصادر مؤخرا عن المركز القومى للترجمة بقولهم: وهو أول من يحلل «الانتشار عبر أوروبا لاستيطان إسلامى غربى ذى اتجاهات فكرية، وإن كان إسلاميًا تمامًا فى أهدافه السياسية». والمقصود بالأخص هو الطلبة واللاجئون السياسيون القادمون من مجمل العالم الإسلامى والموجودون فى إنجلترا وفرنسا وسويسرا وألمانيا. وبالنسبة لهذا الجيب المسلم، فإن «تمدنه، الذى كان إلى عهد قريب قاصرًا وغافيًا، قد أصبح، بالتحديث الذى طرأ عليه فاعلًا وحيويًا بشكل فريد فى أسلوب وجوده الجديد. إنه يبدى المشهد الدال على إسلام يناضل ويدافع عن نفسه، لا تقهقر، بل يتحول، ونرى فيه اتضاحًا لشراكة مشاعر وانجذاب إلى الأفكار ومقاومة ضد أشكال سيطرة الغرب. ويبدو أن طموحًا مماثلًا يكمن وراء مجهود الطالب الهندوسى أو الفارسى أو التونسى أو المصرى والكوميتاجى البلقانى والتترى الروسى؛ فهو طموح إلى خلاص مزدوج، عبر تقدم التعليم وعبر المطالبة، بالنسبة للمسلمين بحقوق كل شعب. فكيف يمكن تعريف مرحلة التطور هذه إن لم يكن بتعبير حالة التمدن ؟».
ويتطور فى تلك الأثناء «تمدن إسلامى أفريقى» يتجلى فى استيعاب الأهلى فى الأجنبى مع استيعاب الوسط الأفريقى للأجنبى. وانتهاء العزلة هذا يجد ترجمة له فى تزايد الوعى بوجود جماعة مسلمة واسعة تمتد حتى الصين حتى وإن كان يؤكد بشكل متزايد باضطراد أشكالًا من الوعى القومى ويتغلغل فى داخل أفريقيا.
وعندما يتحدث لو شاتليه عن العالم العثمانى، فإن فكرة الحركة تتغلب دومًا. فهذا العالم «يهيمن عليه نزوع مخلص إلى التحرر الفكرى والسياسى والاجتماعى، لكنه يجد محصلته فى إمبريالية السلطة، فى ألبانيا وفى بلاد الشام، وفى طلب التحالفات، المطلوبة أحيانًا من فرنسا وإنجلترا، والمطلوبة أحيانًا.
أخرى من ألمانيا. وفى نهاية المطاف، تجد أوروبا نفسها حيال حركة تمتزج فيها دوافع النزعة القومية التركية والإمبريالية العثمانية مع دوافع روح ليبرالية وحديثة، لا تزال ناشئة إلى حد ما، وتبدى ذلك لها عن طريق الطموح إلى تشبيه التمدن الإسلامى تشبيهًا دقيقًا بتمدن أوروبا، مبقية على التمدن الأول مسلمًا بما يكفى بحيث لا يمكن الشك فى ذلك».
وترمز هذه الثورة الفارسية إلى «زخم نهضة حضارة تحول نفسها لكى ترجع إلى الحياة». وهو يشدد، فيما يتعلق بالهند، على صدارة النزاع مع الهندوسية: «لكى نلخص فكرة معقدة نسبيًا، فإن المواجهة مع أوروبا والحداثة تشكل حافزا لاتجاهات ليست متناقضة: وعى متزايد بانتماء مشترك إلى الحضارة الإسلامية، وتأكيد هويات قومية ورغبة فى التحرر من السيطرة الأوروبية حتى ولو اقتضى ذلك اللعب على التنافس فيما بين الدول الأوروبية العظمى.
«وفى هذا السياق، يجب أن تزود فرنسا بــ«علم اجتماعى مختص بالعالم الإسلامى» يساعد على بلورة سياسة من أجل تفادى خطر «نزاع حضارات».
والحال أن عمل ألفريد لو شاتليه إنما يشكل منعطفًا رئيسيًا فى تاريخ الاستشراق الأوروبى. فهو إذ يرفض كل فكرة عن ثبات أو عن جوهر خاص، إنما يُدخل فى دراسة الحاضر المفهوم المحورى.
لـــ«العلم الاجتماعى» المستخدم فى دراسة «الحركة». والحال إنشاء كرسيه فى الكوليج دو فرانس والخاص بــ«السوسيولوجيا والسوسيوجرافيا الإسلاميتين»، فى عام ١٩٠٢، قد حدث بعد عشر سنوات بالكاد من وفاة رينان. وهكذا نرى إلى أى مدى كانت القطيعة قوية.
فى مستهل عام ١٩١٩، تبدو القوة البريطانية فى العالم الإسلامى غير قابلة للتصدى لها. فنحو مليون من الجنود يرابطون من مصر إلى أفغانستان فى بلدان تعد من الناحية النظرية مستقلة أو مستعدة للاستقلال. وحتى مع أننا بإزاء قوات كولونيالية إلى حد بعيد، فإن هذا العبء يصبح غير محتمل بالنسبة للماليات البريطانية بعد النفقات الباهظة التى تطلبتها الحرب. ثم إن القوات «البيضاء» المنبثقة من التطوع أو التجنيد للدفاع عن الوطن لم تعد تحتمل إبقائها فى ظروف عسكرية. والتأخر فى تسريح القوات يستثير فى كل مكان تقريبًا عصيانات مقلقة بشكل خاص. ويتطلب الأمر بضعة شهور لإدراك أن الإمبراطورية مترامية الأطراف أكثر من اللازم وأن من الضرورى القيام بانسحاب أو على الأقل إجراء إعادة انتشار.
وينشب الجدل بين المدافعين عن إمبريالية كلاسيكية مستندة إلى عبء الرجل الأبيض والداعين إلى إمبريالية جديدة «من شأنها أن تتحقق عبر تنازل سريع عن السلطات لسلطات محلية مع ضمان حفظ المصالح الحيوية البريطانية. وبالنسبة للأكثر جسارة فى المجموعة الثانية كتوماس إدوارد لورانس، يصل الأمر إلى حد إمكان تصور تكوين فى الأمد المتوسط لــ «دومينيون أسمر» إسلامى فى داخل الكومونويلث الأخذ بالتشكيل. والأفق هو بالفعل أفق تكوين دول وأمم. والحال أن الثورة المصرية فى عام ١٩١٩ والمأزق السياسى الذى أعقبها، وانسحاب القوات البريطانية من سوريا والاضطرابات فى فلسطين فى عام ١٩٢٠ والثورة العراقية المعاصرة لها إنما تبرهن على استحالة مواصلة تطبيق الصيغة الإمبريالية القديمة.
وللحديث بقية