فى البدء كانت الصورة، هكذا يطرق ريجيس دوبريه مؤكدا باب التأريخ لفنها، وقبله ابن عربى بأن هناك خيالا مصورا لهذا الكون قبل أن يكون، وكذا يطل علينا غلاف كتاب «بورتريهات»، صور بحالات تعبيرية متعددة نجح الفنان محمد زيو فى دفعنا أن نخمن ونتأمل لمن نعرف ولا نعرف، فندخل نحن الكُتّاب محملين بسلاح الكشف وسبر الأغوار ما مبتدأه الصورة وعنوان يشى بفن من فنون رسم الصورة أيضا!، سندخل غاليرى الفيتورى من يرسم لوحاته التى سنقرأ فى فضائها الأبيض والأسود والملون! عمن كرسوا حياتهم وكانوا بفرادتهم مؤثرين فاعلين، ما قرأتُ كإصدار جديد 2019 م يبانُ كلوحة فنية لفتتنى بجناح دولة ليبيا بمعرض الكتاب فى يوبيله الذهبى الخمسين، هو حفر فى تضاريس النسيان لمن طمستهم الذاكرة المثقوبة، كما نكران ومحو جاحد من متسلط، والكتاب لا يعدد مناقب بل يذهب إلى قراءة منهج حياتهم أصحاب الصور ما جعلهم يبرزون ويؤكدون بصمتهم التى علاها غبار ثقيل جلاه باحث فى مسيرتهم لم يعدم نبشا عن المرجعية ما دُون أو ما قيل شفاهة، أو عبر ذاكرة حية حفظ وقائعها مُنتبها لهم، حدث جامع استحق أن يذكر ويؤرخ لخصلة مشعة إنسانيا نتعلم منها نحن أبناء اليوم والغد، سنقرأ عن مواقف حياة تشعرنا أنهم عافروا وعاركوا زمانهم بكل ما فيه وانتصروا بالإرادة وأنهم سادة فى الحياة.
يُغنى أحمد الفيتورى فى كتابه بورتريهات صورة شخصياته الإنسانية كما جغرافيا أمكنة قاربها بكتابة نثرية شعرية حينا وسردٍ لراوٍ حصيف شاهد، كتابة لا تتغيى تقديم معلومات وتفاصيل حياة عامة بقدر ما تبحث فى بعث الحياة فى زوايا منسية مهملة للكائن الغائب فى الطمى أو الحاضر المنسي، فالبورتريهات ترسل رسالتها الجليلة تقديرا وعرفانا، هؤلاء كانوا فى المحك وعبدوا طريقهم بالفعل المثابر الذى جعلهم راسخين فى الذاكرة، تعاود الحنين والإنصاف لمن أخذهم القدر مثلما تقول لنا إن فى حياتنا من يستحقون أن نكرمهم وهم بيننا، ولعل من نحت البورتريهات يذكرنا بقول حنا أرندت بما هو مدعاة للحزن هو ما نشهره للمستحق ما بعد الوفاة.
ولأنه من يعاين محدقا فى المشوار والأثر المتربس على مشروع مبكر نحته فى سفر الوطن ورموزه، تتسرب فى قراءته رؤيته وزاوية نظره للكائن كما للمكان محل الصورة البورتريه، ويشركنا معه فى أن نجوس جماليات ركز عليها مستخدما حواسه وذائقته أو كما لو أننا معه بكاميرا سينمائى شغوف يكشف مكامن غاصت وراء الظلال.
فى كتاب «بورتريهات» ما يقارب الثلاثين صورة شخصية، يقاربها أحمد الفيتورى راسما فضاءها وكأن قدوته،المشغول بثقافة وتاريخ الوطن،المسكون بالعقلانية وحامل مشعل التسامح، التنويرى شيخ الكتاب الليبيين على مصطفى المصراتى من عنده التسامح لايعنى اللامبالاة بل يعنى البحث عن الأفضل، ومثله من يأخذ الكتاب بقوة ويجعل مكتبته مكتبة الليبيين عبدالمولى لنقي، وعن راهب فى محراب الحب عبدالعزيز الغرابلى مطرحه فى كل القلوب زارع البسمة زيزو التلميذ المجد فى سجنه، وعن من يمشى بأسره وحيدا الخبير النفطى المبرز وحيد بوقعيقيص، ويطل علينا من حمل الاسم الآخر للجسارة الجندى فى فلسطين والمحامى المدافع عن حقوق سجناء الرأى عبدالرحمن الجنزوري، ونبحث فيمن دس روح طفولته بين النصوص من لولاه ما كانت طرابلس الغرب رضوان بوشويشه الشاعر والتشكيلي، وفى تاريخ أدبنا ومفتتح القصة القصيرة نرفع أيدينا تحية كبيرة لرائدها وهو المؤرخ والصحفى والمترجم وهبى البوري.
لن يعول على البورتريهات إن غابت تاء التأنيث، ففضاء لا يؤنث لا يعول عليه، حضرت آسيا الغرابلى كقارة مقتدرة، الصامدة هى عنوان الصبر لشريك حياة ورفاق عرفوها عبره فى زنزانة القهر، وأيقونة الجيل المتمرد الصحفية القادمة من درنة كأول امرأة تكتب رواية مرضية النعاس، وعن أول رحالة منسية كتبت أدب رحلات من مصر إلى لندن خديجة عبدالقادر، وعن النحلة التى طموحها فوق جناح الريح قلقة ومن قلقها تنسج السكينة فنانة المسرح سعاد خليل.
ومن بورتريه العرب ينبثق صديق الفيتورى محمد عفيفى مطر من تميز بشعرية ضد السائد أيا كان هذا السائد من حياته شعره، وعن العلى الفلسطينى من لا يموت لأنه الناجى بفعل ما فعل ما رسم، وقد حمل الريشة لكى يحقق وجوده المشروط بالهوية ناجى العلي، ومن حفر حجر الشعر واندس فى الظل بسام حجار المتكئ على جذع الترجمة.
كتاب «بورتريهات» للكاتب والروائى الناقد أحمد الفيتورى يذهب إلى الأمكنة محتفيا بها وكأنها شخوص حية نابضة، مدن ليبية وعربية ومن العالم القصى يحاكيها بروح شفيفة ككتاب حياة يمنح ويأخذ، أو كما جاء فى مقدمة للشاعر جمال القصاص أن الفيتورى يقدم زادا معرفيا أصيلا كما بين الصورة ومن جغرافيا الشخوص رسائل حية وممتدة فى جسد الزمان والمكان.