الجمعة 22 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

أوروبا والعالم الإسلامي «5»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يتابع ثلاثة من أشهر مؤرخى فرنسا، هنرى لورنس وجون تولان وجيل فينشتاين فى كتاب ضخم بعنوان أوروبا والعالم الإسلامى.. تاريخ بلا أساطير والذى نقله إلى العربية بشير السباعى والصادر مؤخرا عن المركز القومى للترجمة بقولهم: «والمستقبل، هو من ثم لأوروبا ولأوروبا وحدها. فسوف تفتح أوروبا العالم وتنشر فيه دينها، وهو القانون والحرية واحترام البشر، هذا الإيمان بأن هناك ما هو مقدس بين بنى الإنسان». والحال أن موشور رينان التفسيرى سوف يفرض نفسه لعدة عقود على الفكر الأوروبى لأنه يمنح هذا الفكر الضمانة العلمية. وليس الهدف الأول للعمل الرينانى هو بيان طبيعة الإسلام، حتى وإن كانت أطروحته قد انصبت على ابن رشد. 
فصرحه الفكرى الضخم، الناتج فى آن واحد عن البحث الشخصى من جانب إنسان فقد إيمانه الأصلى وعن التساؤل الرئيسى فى زمانه، إنما ينصب على طبيعة الظاهرة الدينية وبالأخص طبيعة تشكلها التاريخانى. وينطلق رينان من الاكتشاف الذى كان قد تم التوصل إليه قبل أكثر من نصف قرن آنذاك والخاص بالقرابة فيما بين اللغات الهندو – أوروبية. ولم يقم فقهاء اللغة برسم اللوحة النحوية وجرد جذور المفردات وحسب، بل قاموا أيضًا وعلى الفور بمنح مجموعة من القيم الحضارية لذوى الأصول الهندو – أوروبية. 
وقد انطلقوا من فكرة أن التوسع الهندو – أوروبى فى عصور سابقة مباشرة على التاريخ ما كان بوسعه أن يتحقق إلا وفق نموذج الغزوات الجرمانية المعروفة جيدًا والتى تشكل مصادر لخطابات سياسية منذ عدة قرون. وبحلول ذلك الوقت، نجم عن ذلك بشكل شبه تلقائى أن الإقطاع لم يكن ظاهرة فريدة فى التاريخ الأوروبى، فهو قد تكرر فى كل مرة حدث فيها غزو هندو – أوروبى. وبحسب التفسير نفسه، انبثقت الحريات الحديثة من الإقطاع. ويبقى مع ذلك أن الشعوب الهندو – أوروبية الأولى كانت تؤمن بتعدد الآلهة. 
وعلى هذا الأساس، يقوم رينان بتقسيم المعرفة التاريخية بذهابه إلى وجود جماعة مكملة لجماعة الهندو – أوروبيين، هى جماعة الساميين. وهو يقوم بجرد لغوى وإثنوغرافى لها، وهو يذهب إلى أن الساميين كانت لديهم منذ البدايات فكرة عن الواحد قادتهم بشكل لا مفر إلى التوحيد وقادتهم، فى السياسة، إلى الثيوقراطية، إلى الاستبداد أو إلى الفوضى. أما الميثولوجيا الهندو – أوروبية فهى فكرة أصلية عن المتعدد تقود فى السياسة إلى الحرية وإلى معنى الدولة. 
والمسيحية هى فى آن واحد استيلاء على عالم المتعدد من جانب عالم الواحد وهى فى الوقت نفسه تحويله إلى تركيب منسجم نسبيًا يقود إلى تكوين تراث فكرى يجمع بين ثقافة العلوم وثقافة الحرية. وهكذا فإن انتصار أوروبا الحديثة هو انتصار للفكر الهندو – أوروبى الذى ينعكس إما على الشعوب الأنقى (الجرمانية، النوردية، الأنجلو – ساكسونية)، أو على الشعوب اللاتينية، وهى نتاج انصهار أجناس يسمى بالتمدن. وإذ يستعيد رينان تفسير جيزو للتاريخ، فإنه يجعل الصراع بين المجتمع الدينى الموسوم بالسامية والمجتمع المدنى الموسوم بالأرية مُحرك التقدم البشرى. وفى الحالتين، يتعلق الأمر من جهة أخرى بالأرستوقراطيات بالمعنى الدقيق للمصطلح بأكثر مما يتعلق بالكتل البشرية. 
وبدلًا من الأصول المتوسطية للعقل، والعزيزة على فكر التنوير، يقدم رينان أصولًا أخرى تحيل إلى تاريخ أولى مستخلص فى آسيا الوسطى، ليسمح كل هذا بفهم انتصار النبوغ الأوروبى الحاسم فى القرن التاسع عشر. فإذا كان الشرق هو الأصل، فإن الغرب هو المستقبل.
يبدأ جدل حقيقى بين الخبراء الفرنسيين المتخصصين فى الشأن الإسلامى. فهناك من يرون أن لجنة الاتحاد والترقى تجسد انتصار أوروبا على آسيا المتمثلة فى حاشية عبد الحميد العربية. ثم إن شكل التحديث الذى يقوم به نظام جماعة تركيا الفتاة يطرح تساؤلات جديدة: إذا كان لا يمكن اختزال الإسلام فى مجرد ممارسة دينية وإذا كان يجب اعتباره حقيقة اجتماعية واقعية، فقد يكون بالإمكان رؤية انبثاق أمة ونزعة قومية إسلاميتين متميزتين عن الظاهرة الدينية التى تصبح عندئذ مجرد علامة على هوية جماعية، ثم ألا تجد العداوة لنظام حكم جماعة تركيا الفتاة ترجمة لها فى ظهور تطلعات إلى الحكم الذاتى لدى مسلمى الدولة العثمانية غير الترك، والألبان والعرب؟ وفى هذا السياق، لا يمكن للسياسة الفرنسية الاقتصار على متابعة زبائنها المعتادين. إذ يجب عليها الاهتمام على نحو مباشر بالمسلمين الموجودين، فى التسوية الحميدية، خارج منطقة نفوذها. 
وفى يوليو ١٩٠٩، بعد عام من الثورة، تصدر التعليمات إلى السفارات والقنصليات فى العالم الإسلامى بإعداد عرض للصحف الصادرة فى البلاد الموجودة بها وإرسال هذا العرض إلى باريس، كمرحلة أولى فى القيام بتمحيص شامل. وفى العام التالى، فى عدد سبتمبر من مجلة ريفى دى موند ميزيلما، يدعو ألفرد لو شاتليه إلى وضع «سياسة إسلامية» ضمن إطار «مؤسسة استشارية، لا غنى عنها فى عصرنا من الناحية السياسية كما من الناحية الإدارية». 
وللحديث بقية