حين وقف مستر «إكسهام» القائد الإنجليزى بمدن القناة وجنوده من قوات الاحتلال، وقاموا بتحية النقيب مصطفى رفعت وجنوده من الشرطة المصرية، يوم الجمعة ٢٥ يناير ١٩٥٢، كان وراء التحية تقدير كبير من القائد الإنجليزى بعد اندهاشه لموقف الشرطة المصرية فى الدفاع عن مركز البوليس بمبنى محافظة الإسماعيلية، ورفضهم الاستسلام ومقاومتهم فى معركة شرسة غير متكافئة.
حيث كان أفراد الشرطة المصرية لا يحملون سوى البنادق العتيقة المعروفة باسم «انفليد»، والتى كانت بدائية أمام مدرعات وعربات ومدافع الجيش الإنجليزى المتطورة والحديثة، والتى دمرت مبنى مركز البوليس المكون من دورين وتم تدميره بالكامل.
رغم تحذيرات «إكسهام» عبر بوق مكبر صوت من أجل خروج البوليس المصرى تاركين أسلحتهم، وإعلانهم الاستسلام، وهو الأمر الذى رفضه النقيب الشاب مصطفى رفعت، قائد المركز، بعد مداولة مع الملازم أول مجدى عبدالسميع، واللذين رفضا التسليم مع جنودهما، ودخلوا فى مقاومة غير متكافئة، استشهد خلالها ٦٠ شرطيًا من الجنود والصف ضباط، والتى ارتفعت فيها أسماء الشهداء إلى السماء.
من هنا جاءت دهشة «إكسهام» الذى وقف وجنوده الإنجليز لتحية النقيب مصطفى رفعت ورفاقه من الذين ظلوا على قيد الحياة أثناء خروج الجثث والمصابين، ليسجلوا صفحة ناصعة ويكون بداية لعيد الشرطة المصرية، الذى مر عليه ٦٧ عامًا، ونحتفل به هذه الأيام.
وهناك صفحات طويلة من بطولات وتضحيات رجال الشرطة عبر المعارك الوطنية، منها تعاون الضباط المصريين مع الفدائيين فى معركة بورسعيد الوطنية ضد العدوان الثلاثى عام ١٩٥٦، كذلك تدريب أفراد الشعب باسم الحرس الوطنى فى جميع محافظات مصر.
كما شهدت معركة «كفر أحمد عبده» بالسويس، تعاون رجال الشرطة الرافضين لهمجية الجنود الإنجليز، وقد شهد التاريخ التلاحم بين الشرطة والشعب فى جميع محافظات مصر عبر المعارك ومقاومة الإنجليز والفرنسيين فى قنا وأسيوط ومحافظات الصعيد.
ولعل أبهى صورة للشرطة المصرية كانت فى مقاومة القوات الإسرائيلية أثناء محاولاتها اقتحام قسم شرطة الأربعين بالسويس فى أكتوبر ١٩٧٣، حيث وقفت قوات الشرطة والمقاومة الشعبية ضد الجنود الإسرائيليين وقتلتهم أمام القسم، والذى تهدم جزء منه ومات بداخله فى المقاومة جنود وضباط متجاورين مع أبطال المقاومة الشعبية، الذين استشهدوا على سور القسم وأمام بواباته، فى معركة تعتبر الأهم فى التاريخ الحديث، هذا غير الشهداء والمصابين من الشرطة المصرية فى معارك الإرهاب والتطرف ومقاومة الجريمة.
وقد شهدت وزارة الداخلية ٢٢ وزيرًا لها منذ الخمسينيات وهم «سراج الدين – عباس رضوان – عبدالعظيم فهمى» وامتدت إلى فترة الستينيات بالوزراء «زكريا محيى الدين – شعراوى جمعة الذى كان يجوب المحافظات للاطئنان على المهجرين من أبناء مدن القناة والسويس – الإسماعيلية - بورسعيد» امتدادا إلى السبعينيات حيث برز اللواءات «ممدوح سالم – السيد فهمى – النبوى إسماعيل» إلى فترة الثمانينيات التى كان فيها وزراء بداية بالخبير الأمنى الكبير «حسن أبوباشا» صاحب تجربة الأمن السياسى، والذى ألف كتاب «كنت وزيرًا للداخلية» وما به من دروس مستفادة وهامة وتحليل سياسى فى العمل الشرطى وأمن المجتمع.
مرورا باللواء «أحمد رشدى – محمد عبدالحليم موسى وحسن الألفى» إلى فترة الألفية الأخيرة التى شهدت وزارة الداخلية «حبيب العدلى، المتهم والذى يحاكم الآن – محمود وجدى – منصور العيسوى – محمد إبراهيم يوسف – أحمد جمال الدين – واللواء محمد إبراهيم ابن السويس وشريك الرئيس عبدالفتاح السيسى فى ثورة ٣٠ يونيو فى مواجهة الإخوان».
بالإضافة إلى الوزير الأخير مجدى عبدالغفار وحتى الوزير الحالى اللواء محمود توفيق.
لقد أكد الدستور المصرى فى المادتين «٢٠٦ – ٢٠٧» أن الشرطة هيئة مدنية نظامية فى خدمة الشعب وولاءها له، وتكفل للمواطنين الطمأنينة والأمن، وهى التى تسهر على حفظ النظام العام والآداب العامة، وتلتزم بما يفرضه عليها الدستور والقانون من واجبات، مع احترام حقوق الإنسان وحريته الأساسية.. وهو ما ينظمه المجلس الأعلى للشرطة.
والآن ونحن نحتفل بالعيد ٦٧ للشرطة المصرية بتاريخها العريض فى بسط الأمن ومكافحة الجريمة والإرهاب والتطرف، وبما قدمته من شهداء ومصابين، فإن الأمر يتطلب منا الوقوف على بعض المهام العادلة المستقبلية للشرطة منها:
- أهمية التفعيل الأفضل لإدارة حقوق الإنسان على كافة المستويات من الوزارة، مرورًا بالإدارات والقيادات وحتى مديريات الأمن بالمحافظات وأقسام الشرطة فى كافة محافظات الجمهورية.
- الاهتمام بنشر التقرير السنوى الإحصائى عن الجريمة فى بلادنا، والمعروف باسم «تقرير مصلحة الأمن العام عن الجريمة فى مصر»، وهو التقرير الذى طالب به وابتكره «راسل باشا» حكمدار القاهرة فى العشرينيات من القرن الماضى، من أجل الوقوف على حجم الجريمة وتصنيفها وتحليلها لمواجهة تطور الجريمة وكيفية وضع أساليب لمكافحتها.
وقد أكد على أهمية نشر التقارير خبراء الأمن ومكافحة الجريمة، منهم اللواء فؤاد علام، الخبير الأمنى، والدكتور عبدالوهاب بكر، مؤرخ الجريمة فى مصر، واللواء مصطفى الكاشف، الخبير الأمنى بالأمم المتحدة، وكذلك الدكتور أحمد وهدان، رئيس قسم بحوث الجريمة فى مركز البحوث الجنائية والاجتماعية.
إن إعادة نشر التقرير على الإعلام والمختصين ومراكز الأبحاث والجامعات، وفى مقدماتها وجوبيًا مجلس النواب، سوف يفيد المجتمع، خصوصًا بعد فترة حجب لهذا التقرير وعدم نشره لسنوات طويلة شهدت فيها الداخلية معارك كبيرة سلبًا وإيجابًا.
- إنه من المفيد مع الاحتفالات بعيد الشرطة سواء باستعراض جاهزيتها، أو بتكريم الشهداء من أبنائها، أصبح من المفيد أيضا عقد ندوة علمية تناقش إنجازات الوزارة فى مكافحة الجريمة والإرهاب، ودراسة وفحص الجرائم وشكل تطورها الجديد من أشكال وأساليب الجريمة، سواء فى جرائم العنف والإرهاب، وما يسمى بالجرائم الإلكترونية وجرائم الخطف والعنف الأسرى، والجرائم الدولية المنظمة فى تجارة العملة وشبكات المخدرات بأنواعها، فضلا عن ارتفاع جرائم التحرش والقتل والانتحار العائلى وغيرها من الجرائم الأخلاقية التى ظهرت حديثا، وخطورتها على المجتمع، منها التمثيل بالجثث وانتشار حاملى الأسلحة فى البؤر الإجرامية، وارتفاع نسب المسجلين خطر الذين يهددون الأمن.
- وأصبح من الأهمية التعاون الوثيق بين المركز القومى للبحوث الجنائية، الذى تم تأسيسه عام ١٩٥٥ وتحويله بعد ذلك باسم المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، بقرار من الرئيس جمال عبدالناصر، الذى يقدم دراسات هامة وعلمية، ويصدر المجلة الجنائية القومية ومجلة التعاطى والإدمان، هذا غير البحوث الراقية علميًا وعلاقتها بالأمن الاجتماعى.
- لقد أصبحت أكاديمية الشرطة مركزا علميا، ومن هنا لا بد من تطوير مناهجها ودراساتها العلمية، وفتح مناقشات الرسائل للجرائم الجنائية والسياسية للباحثين، والتعاون مع الجامعات سوف يساهم كثيرا فى مكافحة الجريمة.
وقد تناولت السينما المصرية عبر تاريخها أفلامًا كثيرة متأثرة بعناصر الشرطة وعلاقتها بالمجتمع، بمعالجات نقدية لتصرفات قلة من بعض رجال الشرطة غير الأسوياء، منها أفلام «زوجة رجل مهم – ضد الحكومة – الإرهاب والكباب – كلام الليل» وفيلم «هى فوضى» الذى كشف تصرفات «حاتم» أمين الشرطة المرتشى الفاسد.
وغيرها من الأفلام، حينما كان زمان حكمدار العاصمة، حيث تعداد السكان كان قليلا، يناشد «المواطن أحمد إبراهيم، القاطن بدير النحاس ألا يشرب الدواء الذى فيه سم قاتل».
فضلا عن تعامل الدراما والمسلسلات المصرية مع النماذج المشرقة فى معالجات تكشف الفساد.
إن نشر ثقافة حقوق الإنسان والتدريب المستمر للضباط والجنود وصف الضباط، صغارا وكبارا، والارتفاع بمستواهم المهنى والفنى والاجتماعى، أصبح أمرًا حتميًا تفرضه الموضوعية نحو دور رجال الشرطة فى احترام القانون ومقاومة الجريمة.
إن احترام القرارات والأحكام القضائية وتنفيذها على أرض الواقع، أصبح من المؤشرات الهامة فى احترام الدولة ممثلة فى وزارة الداخلية لاحترام القانون، وعلامة على الحكم الرشيد.
تبقى التحية لكل شهداء الشرطة ومصابيها ورجالها المحترمين.