لم يجد ناشر النسخة العربية لكتاب «اللعب مع الكبار»، الذى يتناول مؤلفه الهولندى يوريس لونديك أسرار عالم المال وأسباب الأزمة الاقتصادية العالمية، عبارة أصدق من «جزء أساسى من هذه الوظيفة هو أن تبيع روحك مقابل الراتب الجيد»، والتى تُعبّر حقًا عن ذلك العالم الذى يبدو وكأن الشيطان نفسه يُديره، بينما سماسرة المال هم فاوست الذى اختار هنا أن يخسر العالم فى مُقابل المال.
لونديك، المحقق الصحفى الحاصل على درجة الماجستير فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، والذى شاءت الصدفة ألا يجتمع بناشره العربى شريف بكر إلا عبر هذا الكتاب، رغم أن كليهما درس فى المكان ذاته، كما يقول فى مقدمة الطبعة العربية، يروى الرجل -الذى تنقل كثيرًا بين دول الشرق الأوسط - أنه تلقى فى واحدة من أيام مايو ٢٠١١ المشمسة اتصالًا من رئيس تحرير صحيفة الجارديان البريطانية، والذى كان قد أُعجب قبل شهور بتحقيق أجراه حول استخدام السيارات الكهربية، أنه يرغب منه بدء تحقيق كبير يكشف أسرار عالم المال، وأسباب الأزمة الاقتصادية العالمية.
كان آلان روزربريدجر قد اختار الصحفى الهولندى من بين الكثيرين، لأنه ببساطة لا يعرف شيئًا عن عالم المال، لذا فسينجح فى تقديم هذا العالم لمثله من القراء الذين لا يفهمونه؛ هكذا كانت وجهة نظره فى الرجل الذى بدأ تحقيقه وهو يظن فى البداية أن كل من يعملون فى البنوك، والبورصة قساة، يتنافسون دائمًا، وينظرون إلى عامة الناس باستعلاء. فى الكتاب الذى نقله إلى العربية محمد عثمان خليفة، يروى لونديك مجموعة من المقابلات السرية قام بها مع العديد من العاملين فى قطاع البنوك والشركات المالية فى العاصمة البريطانية حول أسباب الأزمة الاقتصادية العالمية تجاوزت المائتين، لينهمك فى حى المال اللندنى الشهير «سكوير مايل» لفترة طويلة، مع موظفى البنوك الاستثمارية، والموظفين الصغار بالمكاتب الخلفية، وحتى نخبة مديرى البنوك الكبيرة ومديرى الصناديق الاستثمارية المكروهين من الجميع.
أماطت الأحاديث التى أجراها الصحفى الهولندى جو السرية والغموض والصمت الذى يحيط دومًا بعالمهم، أخبروه عن طبيعة أعمالهم، وعن سياسة التوظيف والطرد السامة التى تهدد استقرارهم، واعترفوا له بأنه عندما وقعت الأزمة عام ٢٠٠٨، قاموا بتخزين الطعام، وتحويل أموالهم إلى ذهب واستعدوا لترحيل أبنائهم إلى الريف. تعرف إلى الفروق فى عمل هؤلاء، فمنهم من يقدم استشارات، ومنهم من يعمل بـ«منظور عين الطائر» للاقتصاد بأكمله فيبدو وكأنه محلل فى واحدة من الاستديوهات الرياضية لكن تحليله موجّه إلى المدربين واللاعبين فى مباريات المال التى لا تنقطع إلا بصافرة الإغلاق، وفئة ثالثة تعمل فى مجالات الاندماج والاستحواذ.
كلها مقابلات خفية وفى أماكن مُتعددة، ورفض أغلبهم استخدام أساليب التسجيل، بل وأصروا على مراجعة المحتوى الذى كتبه قبل النشر على الإنترنت تفاديًا لتلك المعلومات البسيطة التى قد تكشف عن هويتهم، مثل أن يبدأ أحدهم يومه بكوب شاى «لا تكتب هذا، فأنا الوحيد الذى يفعل ذلك فى الشركة كلها»؛ فيما لم يُمانع البعض فى ذكر ما يفعله لتفادى الضغوط اليومية.