تُرينا الكتابة ما يغيب عن أعيننا المجردة فى مختلف الجهات، علوًا وانخفاضًا، شمالًا وجنوبًا، على سطوح الأشياء وفى أعماقها. كائنات تولد وتحيا وتموت فى الجهات كلها، ثمة أناس فى العلو البعيد وفى القيعان السحيقة، على السطوح يعيشون مثل ديدان صغيرة، وفى الأعماق المبهمة. تعيننا الكتابة على رؤيتهم والاستماع إلى أصواتهم، تمنحنا الفرصة لمشاركتهم روعة لحظاتهم وهم ينظرون إلينا. الكتابة ناظور، مرهف وجديد فى كل عصر.
إن عطايا الإبداع ممتدة وبلا حدود وليس المقطع السابق الذى جاء فى كتاب لؤى حمزة عباس «الكتابة.. إنقاذ اللغة من الغرق» هو الوحيد فى الثناء على الكتابة ومديحها لكن ما الذى يدفع كاتبا ما ليجلس إلى طاولته ويملأ رزمة من الأوراق بمداد عرقه ودمه؟ هل هو البحث عن وجاهة والسعى المحموم للانتقال من شريحة اجتماعية متدنية إلى أخرى أكثر تقديرًا واحترامًا فى مجتمع ما أم الرغبة فى تحقيق شهرة أو مكسب مادي؟ أم يكمن الدافع فى عدم القدرة على الفكاك من أسر الفن حتى لو عاش الكاتب مذمومًا بائسًا وفقيرًا؟
تمحو الكتابة الكاتب، تزيح حضوره لصالح حضورها، إنه الظل الذى يتراءى فى لحظة واقفًا خلف ستارة الكلمات، لكنه سريعًا ما يخبو ويعود من حيث جاء متخذًا سبيله القديم فى مملكة الكتابة؛ حيث كل شيء يرجع إلى بدئه، ويصبُ فى منتهاه.
هذه هى الكتابة، أما الكاتب فهو: مازح، مستهزئ، مرح، خشن، طائش، لعوب، واحد من الفتيان المرحين، يسير بخطى حثيثة حمقاء على حبل. لاعب سيرك الكلمات يتنقل على الأسرة، يقف تحت النوافذ الموصدة مغنيا بقلب كسير.
وعلى الرغم من أن عملية الكتابة تحتاج إلى جهد نفسى وعقلى غير محدودين لكن أيضًا لا كتابة بدون قراءة والتى بدورها تحتاج جهدًا حثيثًا وكما يقول لؤى حمزة عباس: إن الرجل الذى لم يُصادف أن رأى حلما فى حياته، يواصل أيامه بتصفح كتب تفسير الأحلام. كُتب فى كل مكان: فى المطبخ، وغرفة النوم، وعلى الرف الزجاجى، بجانب ماكينة الحلاقة، فى زاوية الحمام. كان يعيش أحلامه، عادة، فى النهار، مع أول كتاب يفتحه. وأول كلمة تقع عليه عيناه. أن تقرأ عن الحلم لا يعنى، أبدًا أن تحلم، ذلك ما تعلمه من أعوامه مع الكتب.
على الرغم من ذلك فإن عدم الكتابة مؤلم لنفس الكاتب بشكل لا يمكن وصفه وفى بعض الأحيان يدفعه للاكتئاب أو الجنون لأنه لا يعرف شيئًا فى العالم سوى هذه الغواية. وعن هذا تقول كاثرين هاريسون: أكتب لأن هذا هو الشيء الوحيد الذى أعرفه، والذى يمنحنى الأمل بكونى جديرة بالمحبة. الأمر يتعلق -كلية- بعلاقتى مع أمى. لقد قضيت طفولتى فى محاولة لإعادة صنع نفسى كى أصبح الفتاة التى تستحق حبها، وقد ترجمتُ ذلك -دون قصد- إلى عملية الكتابة. وكما أننى كنت أتطلع دائمًا إلى ما وراء تجسدى الحالى، إلى التجسد الذى سيسترعى انتباه أمى، فأنا أتطلع دائمًا إلى الكتاب الذى لم يأت بعد، الكتاب الذى سيكشف عن جدارتى بالمحبة.
إن ما يعرف بحبسة الكاتب شبح مخيف يزاول غالبية الكُتاب تقريبا لكن هناك من استطاع التعامل معه وتفادى ظلاله الكريهة. تعتبر سو جرافتون أن حبسة الكاتب تقع نتيجة قرار خاطئ قامت باتخاذه وأن مهمتها هى العودة للوراء لرؤية ما إذا كانت قادرة على تحديد مفترق الطرق حيث مضت نحو الاتجاه الخاطئ. إذ أحيانا تخطيء فى فهم شخصية أو دوافعها. أو أنها تسلسل الأحداث بطريقة تجعل مسار القصة موحلا. عندئذ تعاود إدراجها فصلا أو فصلين ويُصححُ الخطأ بسهولة.
لا يكتب الكُتاب دائما للقُراء ولكن لأنفسهم أيضا، مداواة لأرواحهم المتعبة، أو مجاراة لأحلامهم المطمورة فى قلوبهم وأذهانهم، أو كما تقول مارى كار، التى تكتب لتتصل بالآخرين، لتوثق، لتوضح: لأزور الميت. لدى مارى الرغبة نفسها التى تراود الغالب الأعم من الكتاب والفنانين، وهي: ترك بصمة فى العالم.
تؤكد مارى أن الطريق للكتابة ليس مفروشًا بالورود والأوقات الهادئة، بل: هناك العديد من المطالب لأقوم بأشياء لعينة أخرى-التجوال وإعطاء المحاضرات- لكنها ليست فظيعة.
إذا لم أستطع الكتابة سأحزن جدًا. أظننى سأقوم بعمل ما له علاقة بالبدن. قد أكون معلمة يوجا أو مدربة فى صالة رياضية أو معالجة مساج. بالطبع لا شيء سيعالج حاجتى للكتابة، هذا يبرر استمرارى فى الكتابة.