تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
قُلنا إن بداية الأحزاب فى مصر كانت بتأثير مباشر بفكرة الأحزاب فى أوروبا، لكن لم تكن فكرة أحزاب بمفهومها السياسى الذى يحمل رؤية وبرنامجًا سياسيًا يصل بأصحابه للحكم عن طريق تداول السلطة إلا بعد دستور 1923 الذى حمل بعض المفاهيم السياسية الليبرالية، ولكن كان دستور 1923 ومفاهيمه بعيدة عن وجود رؤية وبرامج متكاملة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا، حيث إن النخبة الاجتماعية التى خولت لها قدرتها الاقتصادية أن تتواجد، بل تسيطر على المجال السياسى بصورة أو بأخرى جعلت الإشكالية الحزبية، منذ ظهور الأحزاب، فى عدم توافر أفكار أو أهداف غير قضية الاستقلال من تبعية الاستعمار البريطاني، مع العلم أن حتى فكرة الاستقلال هذه لم تسلم من النظر إليها من خلال المصلحة الذاتية، وعلى كل المستويات، فوجدنا أحزابا تطالب وتناضل من أجل الاستقلال الفعلى ووجدنا من يخلط بين هذا الاستقلال وبين التبعية بصور شتى مع الاستعمار، ووجدنا من لا يرفض العلاقة مع بريطانيا بصورة مباشرة على أرضية التعامل مع أمر الاحتلال الواقع فعليًا، فكان هناك كثير من عوامل التغرير والمراوغة من قوى دولية ومن بريطانيا، مثل إعلان الرئيس ويلسون بعد الحرب العالمية الأولى بحق تقرير المصير الذى ردده زعماء بريطانيا وفرنسا، وهم أهم الامبراطوريات الاستعمارية وقتها، كما أن بريطانيا كانت قد وعدت بالجلاء عن مصر، وتوالت التصريحات بذلك حتى وصلت إلى ستين تصريحا أشهرها تصريح وليم جلادستون، رئيس وزراء بريطانيا، فى مجلس العموم البريطانى فى 24/7/1882، فى الوقت الذى استغل فيه الاحتلال كل الفرص المتاحة وغير المتاحة حتى سيطر على كل الأمور.
كان هذا الأمر الاستعمارى الواقع ظرفا ضاغطا فى غياب رؤية سياسية جماهيرية حقيقية، حتى وجدنا مشروع إنجلترا لمد امتياز قناة السويس، ومن المفارقات أن سعد زغلول الزعيم الوطنى لثورة 1919 ووزير الحقانية فى أوائل عام 1910، كان المدافع الأول عن تأييد الحكومة المصرية للمشروع، هذا التأييد الحكومى الذى كان ضمن الأسباب الرئيسية فى اغتيال بطرس غالى رئيس الوزراء عام 1910، هنا لا نريد الإساءة ولا تشويه الصورة، ولكن التاريخ ليس صورة واحدة أو رؤية بذاتها لا تقبل الخلاف وترفض التعدد، فالتاريخ صاحب صور عديدة وأوجه مختلفة حسب القراءات التاريخية من زوايا متعددة، هذا بعيدًا عن الكليشيهات والشعارات الموروثة التى دائما ما تأخذ صفة القداسة التى لا تتسق مع القراءة التاريخية الموضوعية.
هنا نريد أن نوضح قضية مهمة وهى الفارق بين مواقف ورؤية جماهيرية جماعية وبين الزعامات الفردية الذاتية، ولأن فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لم يكن هناك نظام سياسي حقيقي يضع الشعب والمواطن فى حساباته، فكان من الطبيعى أن تكون الزعامات الفردية هى القائدة والمحركة للأمور، خاصةً وكما وضحنا سابقًا أن هذه الفردية نتيجة تراث تاريخى موروث منذ الفراعنة وحتى الآن، وعلى ذلك وبالرغم من هذا الزخم السياسى الحقيقى وغير المسبوق فى تدفقه الجماهيرى منذ حادثة دنشواى التى حركت الوجدان الشعبى وكانت بداية الأوجاع للاستعمار البريطاني، إلا أن الفردية والذاتية كانَ متصدرًا الصورة فى مجالات عديدة سواء فى الإطار السياسى أو الصحفي، الذى سبق التجربة الحزبية وبدأ فى 1907، أو بعد الإعلان عن الأحزاب كما وضحنا فى المقال السابق، لذا كان هذا الخلاف الذى دبت شرارته بين زعيم حزب الوفد سعد زغلول وزعيم حزب الأحرار الدستوريين عدلى يكن فى أكثر من موقف وعلى مدى نصف قرن ظهر خلاله التناحر السياسى بينهما فى خطاباتهما وتعاملاتهما السياسية، مما أثر على أحزابهم محدثًا انقسامات حادة بين مؤيد ومعارض بل وأدى إلى انقسام بين الأمة بأكملها بين سعديين وعدليين، وليس انقسام بين المثقفين فقط، فقد بدأ الخلاف بعد انتخابات الجمعية التشريعية فى عام 1914 وتعيين وكيلين لرئيس الجمعية أحدهما منتخب وهو سعد زغلول والثانى معين وهو عدلى يكن، وقد بدأ الخلاف حين طُرح سؤال عن مَن منهما ينوب عن الرئيس عند غيابه فأصر سعد أن يكون هو حيث إنه مُنتخب وكذلك الحال مع عدلى الذى قال العبرة بالقدرة على الإدارة للجلسات وليس الانتخاب، وتفاقمت الخلافات مرة أخرى فى 16/2/1920 عندما أرادت بريطانيا تشكيل لجنة ملنر بهدف تشكيل وفد للتوصل إلى ايجاد بديل للحماية البريطانية يضمن مصالح بريطانيا ويحقق الأمانى للشعب المصري، فوافق عدلى على عرض الوزارة عليه وسُميت بوزارة الثقة، وهى تسمية أطلقها سعد زغلول على فكرة وزارة لا يشارك فيها الوفد تتولى وضع الدستور والتفاوض مع الانجليز، هنا وقع الخلاف بين سعد وعدلى حول الشروط التى تقدم بها سعد للاشتراك مع الوزارة فى المفاوضات، فرفض عدلى الشروط، خاصةً التى لا تسمح بأن يشترك رئيس الوزراء فى هيئة مفاوضات لا يكون هو رئيسها.
كما رفض عدلى مبدأ أن تُشكل أغلبية المفوضية من الوفد ومضى فى التفاوض بعيدًا عن الوفد واتجه إلى لندن 1921 واستطاع أن يحصل من الإنجليز على ما لم يحصل عليه وفد سعد زغلول عام 1919، المقصود وفد التفاوض الذى تشكل بناءً على تفويض الشعب وليس حزب الوفد الذى لم يكن أُسس بعد، وفى 28 فبراير 1922 أعلنت بريطانيا الحماية والاعتراف بمصر دولة مستقلة ونودى بفؤاد ملكًا على مصر، كما تألفت لجنة دستور دائم للبلاد، وبعد هذا الخلاف دب الخلاف داخل وفد سعد زغلول وأيد الأغلبية ما قدره عدلى يكن، هنا خطب سعد زغلول خطبته الشهيرة التى وصف فيها عدلى وإخوانه بأنهم «برادع الإنجليز»، فحدث الصدام الذى قسم الأمة بين سعديين وعدليين، وتراشق الزعماء الاتهامات، واستمر صراع هؤلاء مع أولئك أو صراع الاعتماد على النفعية والواقعية للوصول إلى الأهداف ممثلًا فى عدلى يكن مقابل الاعتماد على منهج الشعبوية الذى أنتجه سعد زغلول حتى انصرف كل منهما بعيدًا عن السياسة فى عام 1924.
كان من الطبيعى فى إطار هذه الخلافات السياسية والصراعات الشخصية التى لا تخلو من جوانب ذاتية أن يرفض سعد زغلول لجنة إعداد دستور 1923 ويطلق عليها «لجنة الأشرار» فى الوقت الذى خاض فيه الانتخابات عام 1924 على ضوء هذا الدستور، ناهيك عما تمخض به هذا الصراع من مقولات دخلت فى إطار التراث السياسى بسلبياتها وإيجابياتها مثال «لو رشح الوفد حجرًا لانتخبناه، الاحتلال على يد سعد أفضل من الاستقلال على يد عدلى»، فهل هذه الممارسات وتلك السلوكيات أثرت وتركت لنا تراثًا لا نستطيع الفكاك منه؟ سنعرف فى المقالات المقبلة بإذن الله.