كان أحد أهم ملاذاتنا للهروب من يوم دراسي.. كنا نهرب من المدرسة أو "نكوت" وفقا للمصطلح الشائع وقتها لأتفه الأسباب.. وأحيانًا دون سبب.. كنا نتجه إليها قليلًا مقارنةً بقهوة العرب الملاذ الرئيسي لنا.. ربع جنيه ثمن مشروب ومشاهدة فيلم فيديو.. كانت أفلام بروسلي وجاكي شان الأقرب إلى قلوبنا.. إذ كان الفيلم ينتهي في القهوة ولا ينتهي معنا لنمثل معاركه معًا كل وفقًا لقدراته الجسدية.
اعتلت شمس يوليو الحارة ظهيرة أحد أيام الإجازة الصيفية بعد انتهاء الصف الرابع الابتدائي استعدادًا للالتحاق بالصف الخامس بمدرسة "حسني مبارك" كما هي مشهورة بين أطفال وأهالي مساكن عين شمس أو مدرسة "عين شمس الابتدائية" وفقًا لمسماها الرسمي المكتوب على لافتة كبيرة تعتلي الباب الرئيسي للمدرسة.. لم يزحزح الاسم المكتوب على اللافتة مسمى "حسني مبارك" قيد أُنملة عن موضعه في أذهان وألسنة الناس.. فإذا استوقفت تلميذًا في طريقه لمدرسة عين شمس الإبتدائية وسألته في أي المدارس أنت أجاب دون تفكير "حسني مبارك".. وكذلك أهله يفعلون.. وكذا المدرسون.. مؤخرًا عرفني أحد أصدقاء الطفولة الذي يعمل مدرسًا في مدرسة 6 أكتوبر على زميل له يعمل مدرسًا.. بعد سؤاله في أي مدرسة تعمل أجاب سريعًا "حسني مبارك".
دون انتصار يذكر حاولنا كأطفال الهروب من حدود ملكة سماء يوليو الصيفية التي أحرق سلطانها أدمغة وأقفية العباد والأطفال والكلاب.. جميعا عجزوا عن الهروب من قيظها.. حتى "عنتر وعبلة".. الكلبين الشهيرين قرينينا في الطفولة وزميلي اللهو والمرح والهجمات على "المربعات" الأخرى.. إذ تتكون المساكن من بلوكات مبنية معظمها على هيئة زاوية قائمة مكونة من خمسة مداخل كل مدخل يشبه عمارة مستقلة دون باب حديدي كل زاويتين متقابلتين تتلاقى الأبواب مكونة مربع يتحول لمجتمع يضم مئات الأُسر.
كنا تسعة أطفال أعمارهم متقاربة ما بين عمر ثمانية وعشرة أعوام.. اقترح مأمون "شيكلام"-هكذا كان لقبه الذي حصل عليه من استخدامه الكثير لكلمة شيكلام- أن نتجه للسباحة في ترعة الخزان بكفر الشرفا.. كانت تتوسط أراضي زراعية تبعد عنا نحو خمسة كيلومترات.. وكان مأمون "شيكلام" يعمل صبي ترزي- وما زالت مهنته حتى الآن- بكفر الشرفا في ورشة ترزي بمحل يتوسط ترعتي الخزان والشرفا عند أسطي شديد السمنة كثيف البطن، له وجنات منتفخة وكف ممتلئ، يستخدمه في ضرب "شيكلام" على قفاه، أكثر من استخدامه في إنهاء ما بين يديه من أقمشة الزبائن.
لاقى اقتراح "شيكلام" استحساننا وتحول لفعل فاتجهنا لترعة الخزان بالشرفا سائرين أو راكضين أو فارين من "شيكلام" بعد صفعة على قفاه اقتداءً برب عمله في معاملته طوال الوقت.
خطة بسيطة موضوعة مسبقًا.. آخر من يصل إلى الترعة يجلس حارسًا للملابس.. على أن يظل في نوبة حراسته حتى يصيب أحد السابحين في الترعة إلى جوار ديدان البلهارسيا الملل فيأخذ نوبة حراسة مكانه.. إذ كانت الترعة في وقتها إلى جوار حقول أشجار متقاربة وكان من السهل سرقة الملابس والاختباء بين الأشجار والهروب دون التمكن من رؤية السارق.
مرت الدقائق في نوبة حراستي كساعاتٍ وأيام.. متحسرًا متلهفًا على النزول للترعة.. لم يمل أحد.. لم يلبِ أحد نداءاتي فكان قراري.. ترك الملابس والنزول معهم وكذلك فعلت.
مر الوقت سريعًا بين لهو وغطس وضرب لـ"شيكلام" على قفاه وتنازلت الشمس عن مملكتها.. وضَعُف سلطانها.. وبدأ الليل يعسعس سلطانه.. فقررنا الخروج من الترعة قبل حلول الظلام.. خوفا من "النداهة".. وكانت الصدمة.. جميع الملابس سُرقت دون أن يلاحظ أحد.. كانت فاجعة ترعة الخزان.. جميع من كانوا يسبحون مارسوا تلك الرياضة "عرايا" تمامًا.. أو "بلابيص" باستثناء شخص منعه حياؤه من خلع لباسه الداخلي "السبعة".. لحسن حظي وسوء حظهم كنت ذلك الشخص الحيي.. حملوني المسئولية لهدف قرأته في عيونهم.. جميعهم دون استثناء طمعوا في الحصول على ما أنعم الله به عليّ من ستر.. فجاء ردي فعلًا لا قولًا من قدماي التي تركتهم وهربت إلى حيث المساكن على بعد ما يقرب من 5 كيلومترات.. وتبعني زملائي طمعًا في القبض عليّ ونزع ستر الله عني.. فسترني الله وفضحهم على رؤوس العباد.. وسلط الله عليهم قبضات عبيده وعصيهم وأحذية النساء و"شباشبهن".. سخطًا على عُريهم أو "بلبصتهم".. فكان جزاءً وفاقًا.. ترك على الأجساد أثرًا عميقًا لا يضاهيه عمق إلا الأثر الذي خطه الأهل بعد ذلك على أجسامهم.. وكان نصيبي نصف عمق ما على أجسادهم من عمق.
التسعة نفر أبطال الواقعة كان معظمهم في المدارس وقتها.. تسربوا منها سريعًا مثل تسرب المياه والأشياء الأخرى من "كافولة" الرِضع المصنوعة من بقايا الملابس و"الخرِق" التي كانت تُسرب أكثر مما تُجفف.. ورغم عيوبها كان لها السيادة والانتشار فلم يكن "البامبرز" أُخترع وقتها.. أو لم يكن له امتداد بالأحياء الشعبية والقرى.
رغم مرور السنين التي اقتربت من الأربعين عامًا.. ما زال التسعة نفر أصدقاء يجمعهم القدر أحايين.. وأحيانًا تجمعهم صداقتهم.. وما زلت كلما اقتربت من كفر الشرفا.. اتجه إلى الأسطى مأمون "شيكلام".. الذي من الله عليه وأصبح صاحب ورشة ترزي تعلوها لافتة مكتوب عليها بخط كبير "شيكلام" في نفس المنطقة القديمة ما بين ترعتي الشرفا والخزان.. أتوجه إليه مناديا عليه "شيكلام شيكلام".. وقبل أن تنتهي جلستنا الوقورة في محل عمله.. اصطحبه معي إلى حيث كانت ترعة الخزان.. التي اختفت.. وانقرضت الأشجار التي تحولت لعمارات عالية ومنازل عشوائية.. لأصفع "شيكلام" على قفاه.. متخليًا عن وقار أثقلت به السنون والأعوام الوجه والقلب.. معقبًا الصفعة بفرار وهرولة ومطاردة من "شيكلام".