واحة الخميس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تجربة أردت أن أعيشها لنهايتها وأنا أستمتع بكل ما فيها من عذابات ومن إضاعة للوقت، فقد تحول هدفى من مجرد تحرير توكيل لأحد المحامين الى محاولة لإدراك قيمة الوقت عند المصريين، وكيف أن عمر الإنسان قد يضيع منه الكثير بداخل أحد المصالح الحكومية، وتحديدا داخل أحد مكاتب الشهر العقارى الذى يقال عنه المتطور والنموذجى، حيث قادتنى الظروف القهرية إلى الذهاب لمكتب الشهر العقارى النموذجى والمتطور الكائن بمنطقة الدقى، والمسمى بمكتب توثيق الأهرام يوم الاثنين الماضى، وللحق فإننى لم أكن قد ذهبت لهذا المكان منذ فترة طويلة، ولذا فقد فوجئت لحظة دخولى بتطور هائل على صعيد الشكل، فالرخام والزجاج وكل ما فى القاعة يوحى بأنك بداخل أحد البنوك الاستثمارية ولست فى مصلحة حكومية عتيقة، وأسعدنى هذا التطور، لكن جهامة موظفة الاستقبال أيقظتنى مما أنا فيه، إذ بادرتنى كأنها ضمن لجنة مرورية أوقفت شخصا ارتابت فيه لتسأله عن هويته، هكذا خرجت كلمة «بطاقتك» من فم تلك السيدة الوقورة التى بدا لى أنها مجبرة على وظيفتها وأنها كارهة لها، وما إن أخرجت لها بطاقة الرقم القومى حتى أعطتنى رقما وكتبت عليه اسمى وذيلته بعبارة «إجراء واحد» فسألتها ماذا لو أننى أردت أن أعمل إجراء آخر فقالت «تاخد رقم تانى» ثم التفت إلى لوحة الأرقام التى تعلو النوافذ الزجاجية فكانت تشير إلى الخمسين، بينما الرقم الذى معى يقارب من المائتين، وكانت الساعة لم تتجاوز الحادية عشرة صباحا، وقرأت لافتة بأن الخزينة تغلق أبوابها فى تمام الرابعة ولا تلتفت لأى إجراءات انتهت بعد ذلك التوقيت، ووجدت زحاما شديدا لكن المقاعد تكفى لجلوس الجميع وتصورت أن عدد النوافذ التى تصل إلى العشرين منفذا سيكون كافيا وسيؤدى إلى إنهاء كل مصالح كل هؤلاء فى وقت يسير، ولكنى فوجئت بأن أربع نوافذ فقط هى التى تعمل، والباقى نوافذ بلا موظفين، ورأيت جهاز كمبيوتر تعلوه لافتة «حرر توكيلك بنفسك» وسألت هل يمكننى فعل هذا حقا؟ فأجابتنى موظفة الباب المتجهمة «مالوش لازمة» هاتكتب عليه اللى انت عاوزه وبرضه هاتستنا دورك»، وقررت الانتظار وقضيت على وحشة الوحدة بتأمل أحوال المصريين وسماع أحاديثهم، فبين الحين والآخر يحتاج الكاتب إلى شحن أفكاره بالانصات إلى الناس، وهذه فرصة عظيمة لرؤية وسماع أحاديث عينة عشوائية من المصريين الذين ينتمون إلى مختلف الطبقات وإن كان أغلب الموجودين من البسطاء الذين أجبرتهم ظروفهم على تحرير توكيلات قضايا لمحامين، كزوجة فاض بها الكيل فأرادت الطلاق أو كرجل أراد المالك أن يطرده من شقته فقرر اللجوء للقضاء، ناهيك عن هؤلاء الذين يبيعون سياراتهم أو يثبتون تاريخ عقود الإيجار، المهم أن الوقت كان يمر ولا أحد يتحرك من أمام النوافذ الأربع التى تعمل، وفجأة رأيت موظفا قد نهض من مكانه ليتحدث عبر هاتفه المحمول وقد توقف عن العمل، وتصورت أن المكالمة لأمر مهم وضرورى وستكون سريعة للغاية ولكنى لمحت وجهه من بعيد وهو يضحك ويقهقه ويواصل الحديث لأكثر من نصف ساعة، بعدها رأيت موظفا آخر يترك النافذة التى يعمل بها ويختفى بالداخل عدة دقائق ثم يعود ثم يكرر نفس الفعلة أكثر من مرة، وهو تقريبا لا يجلس مكانه قدر اختفائه بالداخل، ورأيت آخر تأتى إليه زميلته وتحدثه فيترك النافذة وينهض من مكانه ليقف معها ويبادلها أطراف الحديث دون مراعاة لظروف الموجودين، الذين كان من بينهم كبار سن ومرضى، وقد شكا لى أحدهم بأن السكرى يجبره على تكرار الذهاب إلى الحمام ولكن أين يذهب وسط هذا الزحام.. وظل الوقت يمر وعداد العمر يتناقص، وهذا الموظف الذى يتحدث عبر الهاتف تأتيه مكالمة بعد أخرى فلا يتأخر فى الرد والرغى، حتى استفزنى الأمر فذهبت إليه وقلت له بكل هدوء وبابتسامة قبل الكلام «على فكرة انت بتتكلم فى التليفون أكتر ما بتشتغل وانت شايف الزحمة» فكان رده «اشتكينى، تحب آجى معاك للمدير» وآثرت الصمت فالأمر لا يحتاج لإضاعة المزيد من الوقت، ورأيت كيف أن عشرات من الناس قد أصابهم الملل واليأس فقرروا الانصراف ولكنى أصررت على البقاء حتى جاء دورى فى الرابعة إلا خمس دقائق وهرولت ما بين الخزينة والشباك بينما عقلى يفكر فى هذا الوقت الضائع وتأثيره السلبى عند هؤلاء البسطاء الذين كانوا يسبون ويلعنون الروتين والعمل الحكومى وعدم وجود رقابة على الموظفين، وتساءلت ألا يمكن ربط الإنجاز بالراتب، فهذا الموظف لو يعلم أن إنجازه فى تحرير العقود والتوكيلات سيزيد من راتبه فإنه يقينا لن يرد على مكالمة واحدة ولن ينهض من مكانه وسيعمل جاهدًا على استقبال أكبر كم من العملاء ولكن لماذا يبذل جهدا وهو سيتقاضى راتبه آخر الشهر سواء قام بتحرير توكيل واحد أو ألف توكيل، وأيقنت ضرورة أن نطور عقلية الموظف قبل أن نطور المبانى والأمكنة، فالموظف لا يعلم أنه يقضى حوائج الناس وأن الله سيحاسبه عن عمله هذا، ومن الواضح أنه لا يخشى العقاب، ويمارس باستمتاع غريب قدرا من السلطوية على البشر، وأنا أضع هذه القصة بين يدى السيد المستشار وزير العدل ليحقق فيها، ولست أشك فى أن مثل هذه الممارسات تؤدى فى النهاية إلى فقدان روح الانتماء عند المصريين، فى وقت نحتاج فيه إلى ترسيخ مفهوم الوطنية والانتماء.