يوما ما كتب محمود الجيار، سكرتير الرئيس جمال عبدالناصر، فى مذكراته، أن عبدالناصر كلفه بمتابعة الرسائل المرسلة إلى ضريح الإمام الشافعى، وقد وجد رسالة من فلاح فقير يشكو من موت جاموسته الوحيدة ويطلب ٢٠٠ جنيه معونة من الإمام، وعندما علم بها عبدالناصر طلب من الجيار أن يذهب إلى الفلاح ويعطيه ١٠٠ جنيه، ونفذ الجيار الأمر، وبعد شهر وجد رسالة من الفلاح نفسه فأعطاها لعبدالناصر، الذى قرأها ولم يتوقف عن القهقهة، كانت الرسالة تشكر الإمام الشافعى الذى لبى الطلب وتطلب منه أن يرسل له باقى المبلغ مع شخص غير عبدالناصر الذى استولى على نصف المبلغ.
هو أبو عبدالله محمد بن إدريس الشافعيّ المطَّلِبيّ القرشيّ (١٥٠-٢٠٤هـ / ٧٦٧-٨٢٠م) والذى يوافق اليوم ٢٠ يناير ذكرى ميلاده، وهو صاحب المذهب الشافعى فى الفقه الإسلامي، ومؤسس علم أصول الفقه، وهو أيضًا إمام فى علم التفسير وعلم الحديث، وقد عمل قاضيًا فعُرف بالعدل والذكاء، كان الشافعى فصيحًا شاعرًا، وراميًا ماهرًا، ورحّالًا مسافرًا، تنقل خلال حياته بين مكة والمدينة واليمن وبغداد حتى استقر وتوفى فى مصر، ومن يومها والرسائل لم تنقطع عن الضريح.
تلك الرسائل التى كانت محورا واحدا من أهم كتب وأبحاث الدكتور سيد عويس عميد علماء الاجتماع فى الوطن العربي، ولد فى فبراير عام ١٩٠٣م، القاهرة وتوفى فى ١٦ يونيو ١٩٨٨م، وقضى حياته فى البحث عن الظواهر الاجتماعية والعادات السلوكية والموروثات القديمة التى تتحكم فى المجتمع العربى بصورة عامة والمجتمع المصرى بصورة خاصة.
الروائى والسيناريست الراحل مكاوى سعيد فى مقال من ثلاثة أجزاء كتب يقول: إن كتاب «من ملامح المجتمع المصرى المعاصر- ظاهرة إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعى»، الذى نُشر فى عام ١٩٦٥، دراسة واقعية، أى أن أهم بياناته كانت مستقاة من الرسائل التى يرسلها عن طريق البريد بعض أعضاء مجتمعنا المصرى المعاصر إلى ضريح الإمام الشافعى يشكون إليه فيها- أى يشكون إلى الإمام الشافعى نفسه فى هذه الرسائل- بعض أحوالهم وما يواجهونه من عنت ومن ظلم أو يطلبون منه فيها قضاء بعض الحاجات، الإمام الشافعى اختُص بهذا الطقس من بين الأولياء المسلمين «لأن المصريين كانوا يشاهدونه وهو يكتب لفترات طويلة، وكانوا يرسلون إليه الشكاوى ويتناقش معهم فى مشاكلهم ويتدخل لحلها»، لأنهم كانوا يعتقدون أن «سلطة الأولياء أقوى من القانون».
وقد أثارت هذه الظاهرة انتباه عالم الاجتماع الراحل الدكتور سيد عويس، فقرر دراسة الرسائل المرسلة إلى الشافعى، وتقدم بطلب خطى إلى الأزهر طالبًا الاطلاع عليها، وبالفعل تمت الموافقة على دراسة ٧٠ رسالة، وتاريخيا، نرى أن كثيرا من الحكام المماليك والفاطميين وغيرهم كانوا يهتمون بدراسة أو قراءة بعض الرسائل المرسلة للأولياء للاطلاع على شكاوى الرعية ومحاولة حلها.
ومن بين الرسائل ما ذكرته السيدة نبوية: أما بعد فأوصى يا إمامنا يا شافعي، وأنت يا حسن وأنت يا حسين، وإنتى يا أم هاشم، وإنتى يا ست زينب وأنت يا قطب الرجال يا متولي، وأنت يا سيدى أحمد يا رفاعي، أن تتصرفوا بمعرفتكم من اللى سرق الجاز والدقيق والسمنة والأنجر… منتقم جبار من الطغيان وابن الحرام، وإن كان أبوها … ينتقم منه، والسلام ختام. من طرف نبوية.
فى مقال مطول كتبت الكاتبة الصحفية زينب البقرى على موقع إضاءات: بدأت رحلتى مع أعمال سيد عويس فى سنوات الكلية الأولى، حينما ذكر المحاضر – فى جملة عابرة – عبقرية هذا الرجل الذى قام بتحليل ظاهرة إرسال المصريين الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعى وتحليل العبارات المكتوبة على هياكل السيارات.
وازدادت دهشتى حينما عرفت قصة كتابه «من ملامح المجتمع المصرى المعاصر: ظاهرة إرسال الرسائل على ضريح الإمام الشافعي»،- فقد واظب عويس أكثر من خمسة أشهر على زيارة الضريح ليتعرف على ما يُكتب فى الرسائل الملقاة فى المقصورة، وفشل مرة تلو أخرى فى الحصول على هذه الرسائل، حتى عاونه مسئول الضريح فأعطاه ١٣٦ رسالة مرسلة للضريح عبر البريد العادى من أماكن شتى فى القطر المصري، بعضها مرسلة من قِبل أناس معلومين وأخرى من مجهولين [من ملامح المجتمع، ص٢٠-٢٥]، فظل سيد عويس فى مخيلتى الرجل الذى أنطق المجهولين وأظهر أصواتهم، حتى إنه فى ثلاثيته «التاريخ الذى أحمله على ظهري» جعل ذاته نفسها دراسة حالة اجتماعية، وليس مجرد سيرة ذاتية أدبية.
وقد نضحت رسائل النساء للإمام الشافعى بالأنين والألم الذى تعانيه النساء الكادحات لتدنى المستوى الاجتماعى الذى يعشن فى كنفه وتعرضهن للظلم، فترسل محفوظة من الشرقية رسالة بتاريخ ٢٤ إبريل ١٩٥٨ إلى الضريح قائلة:
أما بعد فقد حصل يا سيد الإمام الشافعى أن إبراهيم (…) من مركز (…) قد ضربنى بالبلغة، وتهجم عليا بدون سبب، وأن أخى كامل هو الذى حرضه على ذلك رغم أنه احتكر مبلغ ١٠٠ جنيه شبكة، وزوجنى رغم أنفي، وضيع مالى للمستأجرين، وتهجم على بكل أذية، وسلط على كل من يؤذيني، وأخى محمد ضربنى على يدي.
وترسل أخرى شاكية: إلى جناب المحترم السيد الإمام الشافعى قاضى الشريعة مقدمته لسيادتكم نزهة.. بما أنى حرمة فقيرة الحال ومسكينة وغلبانة، تتفسر فى الذى كسر بيتي، وأخد منى البهايم والبرسيم، تتفسر فيه وتخبله بأى داء فى جميع جسمه أو يلقوه مكتول (مقتول) مرمي، أنا ولية مسكينة وشاحتة منك ومن الله وشكوتى لك ولله. وترسل «لولي» (تقيم فى المعادي) رسالة للضريح:
سيدى الإمام الشافعي
بأتوسل إلى الله بأن يمنع عنى عبده اللى بيشتغل معايا، وظلمنى وكل يوم يضربنى ويشتمني، وإن ربنا يمنعه عنى ويخلص لي. والسلام عليكم ورحمة الله. من لولى بنت (…..) بالمعادى شغالة طرف الباشا (….) وإمام الطباخ تمنعه عني.. والسلام ختام.