حدث أبى قال: فى أوائل الأربعينيات (1943 م) كان مجيء الفرنسيين لإدارة فزان جنوب ليبيا قد ألقى بظلال قاتمة كئيبة ساعة استعمروا الواحة عقب المحتلين الإيطاليين إذا بادروا بمعاملة تعسفية وزرعوا الرعب فى كل أنحاء الواحة، وكان والدى الزروق قد علم بسجن ثلاثة من رفقته تُهمتهم أن جرى كشفهم ساعة ردموا سلاحهم فى مخبأ بأطراف الواحة وقد اكتشفتهم عين وبلغت عنهم، وأُعلن عن عقوبة قاسية هى الإعدام لمخالفتهم الأوامر بعدم الاستجابة لنداءات لم تكف لتسليم الأسلحة، ما زال مشهد دموية الانتقام من رجل المقاومة: «الشريف الذهبي» ماثلا أمام عيني، حكى والدى عن وفد تألف من شيخ الواحة وبعض رجالات الأحياء الأربع لبراك (الزاويه، المصلى، القصر، العافية) إذ عرضوا فدية بمقابل إطلاق سراح «الذهبي»، لكن مسئول السجن رفض رفضا قاطعا مُعيدا عليهم ألا فصال فى معاقبته، من استطاع مقابلة «الذهبي» نقل وصيته بعد أن وصف روحه المعنوية العالية، والتى تمثلت فى جملة واحدة بما فحواها: أنا لا أخاف الموت، فقط أحسنوا دفني، وكأنه أحس ببشاعة ما سينفذه الفرنسيون من تعذيب جسدى يومى سجنه ثم التمثيل بجثته، وكانوا عقب إعدامه أخرجوا الأهالى ليشاهدوا درسا لهم بألا يتجرؤوا على مخالفة الأوامر، كان والدى يوم أُعتقل «الذهبي» قد حملنى حبات من التمر وجرة ماء واستطعت الإفلات من مراقبتهم إذ ظنوا أننى أتمشى لاهيا، ومع اقتراب ظلمة الليل دفعت باب سجن «دار قوزايا» وكان من سعف النخيل، ودخلت عليهم وبلغتهم سلام والدى وأمانته، أتذكر أنهم كانوا صامتين، وبادرنى «الشريف الذهبي» وربت على كتفى واحتضننى ثم دفعنى بعدها مشيرا بيده الى أن أغادر سريعا، سرقتُ النظر إليهم متعجلا فوجدتهم يناولون بعضهم ذلك الزاد.
وفى الواحة أخذ المحتلون من الجنود الفرنسيين راحتهم فى الحركة والتنقل صباح مساء، وفى استباحة لكل بقعة غير مُراعين لحرمة بيت أو حياض الزرائب والحظائر وجداول الزرع ما عمرت ببعض من الخضار الذى اعتاش الأهالى منه، فقد تقاسم الفرنسيون كما الطليان قبلهم جبرًا محاصيل أهالى الواحة.
حين كُنا وجيراننا فى بعض الليالى نفترشُ الأرض ويظللنا قمر الصحراء تحمست راوية الواحة زينب بارينا وبدت تُشيد بشجاعة شقيقتى الكبرى «نفيسة» التى غابت عنا يومها تحسبا لغضب أو ملامة من إخوتها أو من زوجها، أو ربما لاعتبارٍ مُجتمعى مُحافظ، فقد سربت قريبةٌ للخالة «بارينا» الخبر، وكيف حملت شقيقتى منجلها وتصدت لأحدهم إذ باغثهن المتسكع الفرنسى مُتحرشا وهن يجمعن حبات التمر المتساقطة (النفيض) وقد صاحت إحداهن: يا بنات.. ألحقن.. تعالين.. ما تباعدن... جرت «نفيسة» فقد كانت أرشقهن حركة، وخمنت أن الصراخ إشارة الى ملمة وأمر جلل مس رفيقاتها بغابة النخيل، حملت منجلها عاليا وما إن بان عليها ذلك الفرنسي، حتى صاحت فيه لاعنةً فعلهُ، فما كان منه إلا أن أطلق ساقيه للريح، ما حمس البنات المُرتجفات لرفع ما يقع بأيديهن من الأرض ورميه عقبه، وهنا قالت «بارينا» حمسنا فعل «نفيسة»، ولنا مع بنى هلال ميعاد هلموا لنُكمل السيرة.
ما سردهُ أبى هنا هى سيرة وقائع غابت ولم تدون فى سجلات الجهاد الليبى «مرويات الذاكرة الشفوية»، ولم يُدرج أسماء هؤلاء الشهداء الأبطال، وقد أعلمنى الأستاذ الفاضل زايد أبوبكر فنير أن خاله «السنوسى مرسيط» كان رفقة الشريف الذهبى وأعدم أيضا فى ذات اليوم، كما لم يُطالب نظامنا السابق فرنسا بتعويض عن حقبة من الاستعمار لجنوبنا مارست فيه السلطة الاستعمارية الفرنسية ضيما وعسفا على كل سكان واحات الجنوب.