عنوان هذا المقال من وحى عنوان قصة للعبقرى يوسف إدريس، لم أجد غيره مناسبًا ونحن نكتب عن سيدة المنيرة العجوز، التى كانت تعيش على الرصيف تواجه بمفردها موجة صقيع ضربت مصر الأسبوع الماضي، السيدة التى كان فراشها من خيش وأحاطت نفسها ببقايا لافتات الإعلانات لكى تنجو من عدوان الطبيعة، لم ينقذها فراشها الهش ولكن صورة على «فيسبوك» صرخت لإنقاذها فتدخل الرئيس عبدالفتاح السيسى رئيس الجمهورية موجهًا برعايتها ورعاية كل المشردين فى شوارع المحروسة.
إلى هنا قد نصفق لتلك الحافلات التى انطلقت بإشراف وزارة الداخلية تلتقط هذا من هنا وتتابع ذاك من هناك، ولكن المتابع للحالة بشكل عام سيرى ما هو أعمق من المبادرة التى احتشد لها صندوق «تحيا مصر»، سيرى أنه من الواجب أن نشير إلى التقصير الفادح الذى يرتكبه يوميًا المحافظون ورؤساء المدن والأحياء والنواب، سيرى هشاشة المؤسسات الخيرية التى تدعى فى عملها مساندة الدولة والمجتمع فى الرعاية الإنسانية، سيرى فهلوة كثيرٍ من رجال الأعمال فى بلادنا وعدم وفائهم بدورهم الاجتماعى الذى أراه حقا للناس وليس تسولًا، فعلى هذه الأرض نمت ثروات رجال الأعمال ومن هذه الأجساد المرهقة المشردة تعاظمت أرصدتهم فى البنوك، سيرى المتابع تقصيرا مرعبا، وأنه لولا إشارة السيد الرئيس ما رأيناهم الآن يهرولون لتنفيذ توصيته.
وفى ذلك تتجدد الأسئلة عن حقيقة الأدوار المؤسسية القادرة على صناعة دولة ذات كفاءة متميزة، الأدوار التى تفرض القيام بالواجب والوظيفة دون انتظار تعليمات الرئيس، لم يعد الكلام من الجهاز الحكومى عن نقص الإمكانيات مقنعًا لأحد، ولكن ما يراه الناس هو التراخى فى القطاع الحكومى وعدم الجدية فى قطاع المجتمع المدنى المكمل لها، لأننا رأينا مع إشارة الرئيس وتوجيهاته، شهدنا الإمكانيات المشكورة تنطلق لتزيح الهم عن المشردين، وهم الحلقة الأكثر ضعفًا فى المجتمع، فصار من حقنا أن نحلم بتنظيم مؤسسى له قواعده القانونية وله البنية التنظيمية التى تسعى إلى كل شبر من أرض المحروسة لترد للمشردين حقهم الإنسانى وتنقذ من هم على أبواب التشرد.
نرى التنظيم المؤسسى وهو مسلح بالعلم مستعينًا بالطب النفسى الذى هو ضرورة ونراه فى بحثه الاجتماعى ليجيب عن الأسباب التى وصلت بالبعض إلى افتراش الرصيف والحدائق والتحاف السماء والهذيان والتكلم مع الحجر، وقبل أن يرد علينا أحدهم بأن تلك الظاهرة موجودة فى كل العالم، وأنها لا تشكل بمصرنا نسبة تذكر، أقول لهم إذا تقبلت المجتمعات فى أمريكا وبعض دول أوروبا وجود مثل هذه الحالات، فنحن لسنا مجبرين على تقبلها، فمصرنا فجر الضمير ومهد الحضارة تختلف بكل تأكيد عن تلك الدول وترفضها، وإن علاج ظواهر التشرد ومن بعده التسول واجب وحق.
لا تتوقف القصة عند ضعفاء الشوارع وسكان تحت الكبارى والأنفاق، فهى تمتد فى مظلتها الشاملة أيضًا إلى أسطوات التسول الذين يدفعون بالصغار وأصحاب الإعاقة إلى الطرقات، أعرف أن هناك قوانين قادرة على ضبط ذلك إن أرادت الدولة، لا تنتظروا مبادرة جديدة من الرئيس حتى نرى التحرك على الأرض، وفى ملف التسول نسأل عن كسرة قلب المجتمع وهو يرى استغلال طفلة أو مريض، نسأل عن كيفية وقوع هؤلاء أسرى لدى مافيا منظمة يعرفها رجال الأمن قبل رجال علم الاجتماع.
ننتظر الرؤية الشاملة للمعالجة، وفى ظنى أن هذا الملف لو ظل مفتوحًا سنرى العجائب من صور مختلفة للظلم، سنرى مواريث تمت سرقتها من بعض المشردين، فاختل توازنهم النفسي، سنرى عقوق أبناء مجرمين تجاهلوا حقوق آبائهم، سنرى تعنت بعض الأسر فهرب أبنائها، سنرى المجتمع وهو يكاشف نفسه بالحقائق ويمشى فى طريق العلاج، لا تنتظروا إشارة من الرئيس بل انتظروا دعمه لكم.