السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

أرقى عصور التسامح الديني في مصر «2»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عندما بدأنا هذه السلسلة من المقالات عن التسامح الدينى فى مصر، والذى يمر بأرقى عصوره، والذى تمثل فى عديد من أوجه ومظاهر العلاقات الطيبة بين المسلمين والمسيحيين، وتجذر ثقافة قبول الآخر لدى عنصري الأمة المصرية، واهتمام الدولة بداية من القيادة السياسية، مرورًا بالحكومة ومجلس النواب بحقوق المواطنة للإخوة الأقباط، فإننا لم ننفِ بذلك أنه أحيانًا يحدث ما يعكر صفو أجواء التسامح الدينى الذى نحياه حاليًا، وقد تكون السبب وراء ذلك متعددًة ولا مجال هنا لسرد تفاصيلها، لكن من عدم الفطنة بمكان أن نسكبَ الزيت على النار من خلال الإعلام والقنوات الفضائية والخطاب الإعلامى غير المسئول، ومن خلال بعض المتشددين من الطرفيْن لنمحوَ كلَ الخطوات التى اتخذتها الدولة المصرية لإقرار حقوق المواطنة للمسلمين والأقباط فى ظل ثقافة التسامح، والتى يجب ألا نتخلى عنها مهما كانت الظروف والأسباب، لقد تعلمنا من قَدَاسة البابا تواضروس قمةَ التسامح عندما قال: «وطنٌ بلا كنائس أفضل من كنائسَ بلا وطن» فى فترة عصيبة مرت على الإخوة الأقباط وعلى هذا الوطن، ومن هنا، فلا مجال الآن للصُرَاخ العالى من قِبَل البعض لتشويه كل المكتسبات التى تحققت فى ظل إشاعة أجواء غير مسبوقة من التسامح الدينى.
وليس معنى ذلك أيضًا أن ندفنَ رءوسنا فى الرمال كالنعام، مُنْكِرينَ حقائقَ التاريخ الحديث والمعاصر التى تُقِرُ بوجود بعض الأحداث الطائفية، بل يجب أن نواجهَ كلَ ما هو طائفى من كلا الطرفيْن من خلال الحزم فى مواجهة أى حدثٍ طائفى وعِقاب المتسببين فيه ووضعهم تحت طائلة القانون بعيدًا عن الجلسات العُرفية التى أثبتت فشلها فى شعور كلا الطرفيْن بالرضا والقبول؛ فتقبيلُ اللحى والعمائم فى هذا الزمن لم يعد ينطلى على طفل صغير، كما يجب إخضاع الخطاب الطائفى بأشكاله المختلفة للدراسة المتعمقة للتعرف على طبيعته وأسبابه وكيفية مواجهته. وفى هذه السبيل كنت قد أجريت دراسة مشتركة مع تلميذتى د. أسماء فؤاد حافظ المدرس بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية بعنوان: «توظيف الشبكات الاجتماعية فى أحداث الفتنة الطائفية بالمجتمع المصري»، وكانت الدراسة مقدمة لندوة «الشأن الدينى فى مواقع التواصل الاجتماعي» بدولة تونس الشقيقة.
وقد تبين لنا من هذه الدراسة أن المجتمع المصرى يعد مجتمعًا قويًا ومتماسكًا ولا سبيلَ للنيْلِ منه أو زرع الشقاق والفتن بين أبنائه، إلا أن هذا لا يجعلنا ننكر وقوع حوادث تتسم بالطابع الطائفى من آنٍ لآخر، وهو ما يحتم على أبناءِ الوطن قطعَ الطريق أمام المزايدات والتدخلات الداخلية والخارجية الهادفة للنيْل من أمن وقوة النسيج المجتمعى ومتانته، وهو ما يوضح ضرورة وأهمية البحث المتعمق فى أسباب حدوث الفتن الطائفية وعوامل تكرارها، خاصةً فى محافظات الصعيد وفى القلب منها محافظة المنيا؛ تمهيدًا لوضع استراتيجيات قصيرة الأجل وطويلة الأجل لمواجهة مثل هذه الحوادث، وهو ما بدأ تنفيذ بعض خطواته بالفعل؛ إذ تم تنظيم الملتقى الدولى الأول للشباب المسيحى والمسلم بالقاهرة فى أغسطس 2016، حول دور الأديان فى بناء السلام ومواجهة التطرف والإرهاب، وذلك فى إطار التعاون بين الأزهر ومجلس الكنائس العالمى، كما قامت الحكومة المصرية فى الشهر نفسه ببحث مشروع قانون بناء الكنائس والذى أقره مجلس النواب. 
وقد أظهرت نتائج التحليل الكيفى للأطروحات المتعلقة بالفتنة الطائفية والتعليقات المصاحبة لها عبر موقع «فيسبوك» أن الوظيفة الأولى لخطاب الجمهور فى هذا السياق كانت استنكار الفتنة الطائفية والاعتراض على أحداث العنف الطائفى بشكلٍ أساسى، أما الوظيفة الثانية فكانت طرح وتفنيد أسباب وقوع الفتنة الطائفية وعوامل تكرارها، بينما ارتكزت الوظيفة الثالثة على استعراض اقتراحات وحلول للقضاء على الفتنة الطائفية، إلا أنه لوحظَ وجودَ قدرٍ كبير من التعصب فى تعليقات الجمهور على طُروحات الفتنة الطائفية، حيث جاءت عديد من المناقشات فى صورة صراعٍ بين الطرفيْن، واستهزاءٍ بالدين الآخر، وتبادلٍ للألفاظ غير اللائقة وخروجٍ عن آداب الحوار، وفى المقابل كانت هناك بعض المناقشات العقلانية المنطقية والتى ترسخ مبادئ المواطنة.
وقد تضمنت أغلب الطُروحات التى نشرها الجمهور عبر موقع «فيسبوك» حول الفتنة الطائفية قيمًا معينة سواء كانت إيجابية أو سلبية، إلا أنه تبين أن التعصب هو القيمة الأكثر ظهورًا، إلا أنه لا يمكن الزعم على أية حال بوجود طرف متعصب دون الآخر فقد لوحظ من نتائج الدراسة تساوى نسبتىْ توجيه شتائم وألفاظ غير لائقة للطرف المسلم وتوجيه شتائم وألفاظ غير لائقة للطرف المسيحى، من حيث الظهور والتكرار فى تعليقات الجمهور، وهو ما يشير إلى تساوى الفئتين من حيث وجود التعصب لديهما، وتحول الحوار والمناقشة إلى صراع يتم فيه تبادل الألفاظ غير اللائقة دون تأثير واضح للهوية الدينية على كلا الطرفيْن، وذلك فى نسبة بسيطة من إجمالى الأفكار الواردة فى التعليقات بلغت 3.2% لكلتا الفكرتيْن.
كما أظهرت نتائج الدراسة أن المضمون الغالب عليها ارتكزت أفكاره الرئيسة فى المرتبة الأولى على وصف تفاصيل الأحداث الطائفية، وهو ما يشير إلى ازدياد شعور المواطنين بأهمية دورهم الإعلامى والإخبارى الذى يمارسونه عبر مواقعهم، حيث حرصوا على نقل تفاصيل الأحداث الطائفية، لا سيما تلك التى تكاد تغفلها وسائل الإعلام التقليدية.
وفى السياق ذاته، أكدت نتائج الدراسة قيام موقع «فيسبوك» بدور مهم لا يُستهان به فى تهيئة الفرصة للمجال العام الافتراضى حول قضية الفتنة الطائفية فى مصر، حيث قام جمهور الموقع بالمشاركة فى المناقشات والتعليقات على 72.5% من إجمالى الطُروحات الخاصة بالأحداث الطائفية التى تم تحليلها، أى أن موقع «فيسبوك» يوفر بالفعل مجالًا عامًا افتراضيًا حول قضية الفتنة الطائفية فى مصر ويتيح الحوار والنقاش حول هذه القضية المهمة بحرية تامة. 
وانطلاقًا من نتائج الدراسة ومقترحات جمهور موقع فيسبوك حول آليات مواجهة العنف الطائفى تم استخلاص مجموعة من التوصيات منها توعية الجمهور المصرى المُستخدم لصحافة المواطن بعدم اتخاذها وسيلة لنشر التعصب وزرع الفتنة، إضافة إلى تدريب الإعلاميين المحترفين على كيفية التعامل مع الأزمات الطائفية عبر وسائل الإعلام التقليدية؛ حتى لا يساهموا فى تأجيج الفتنة الطائفية، ووضع استراتيجية متكاملة تدمج بين الحلول الأمنية والقانونية والسياسية والاجتماعية والدينية والإعلامية لمواجهة الأزمات الطائفية ونشر ثقافة التسامح فى المجتمع.
كما تتضمن التوصيات تدعيم التعاون بين الأزهر الشريف والكنيسة المصرية فى مجال نشر التسامح الدينى والقضاء على التعصب، مع التركيز على محافظات الصعيد، ونشر الوعى بالدور الحقيقى الذى يقوم به أعضاءُ «‏بيت العائلة المصرية»، وتطبيق القانون ومعاقبة الجناة فى الحوادث الطائفية وعدم اللجوء إلى جلسات الصُلح العُرفية والحلول السطحية، ونشر الوعى المجتمعى بثقافة المواطنة والحريات الدينية عن طريق وسائل الإعلام التقليدية والجديدة، مع إعادة النظر فى مناهج التعليم وتضمينها قيمَ التسامح وقبولَ الآخر، وتدريب وتأهيل الدعاة والقساوسة بمختلف المحافظات لنشر المفاهيم الدينية الصحيحة وزرع التسامح فى نفوس المواطنين، وتدريبهم كذلك على كيفية المساهمة فى درء الفتن الطائفية.
حَمَى اللهُ مِصْرَ بمسلميها ومسيحييها.. بهلالها وصليبها.. ومآذنها وأجراس كنائسها.. بأزهرها وكاتدرائيتها.