تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
[email protected]
تعد تعبيرات “,”التوسط“,” من أكثر التعبيرات تشبعًا بالسمعة الاجتماعية الإيجابية، ولعلها الأكثر انتشارًا في لغتنا اليومية المنطوقة والمكتوبة.
نادرًا ما يصف المرء نفسه بالتطرف دينيًّا أو سياسيًّا. الجميع يصفون أنفسهم بأنهم معتدلون أصحاب أفكار وعقائد وسطية لا تعرف تطرفًا ولا انحيازَا. يستوي في ذلك الدكتور أيمن الظواهري، الدكتور كمال الهلباوي، والدكتور محمد بديع، والدكتور ناجح إبراهيم، إلى جانب السيد عمرو موسى، والدكتور محمد البرادعي، وغيرهم، وحتى بالنسبة للخصائص الشخصية؛ فنحن نتحاشى أن نوصف بالتزمت أو بالبخل، أو بالإسراف.
ولكن ترى هل ثمة اتفاق على ما يعنيه تعبير “,”التوسط“,” تحديدًا؟ وهل ثمة علاقة بين التوسط والصواب، بمعنى أن المرء طالما اتخذ موقفًا وسطًا فهو على صواب بالضرورة؟ أو أنه أقرب إلى “,”الموضوعية“,” أو إلى “,”الاعتدال السلوكي“,”؟ هل كلما وجدتُ من هم على يميني ومن هم على يساري تيقنتُ أنني في الموقع الصحيح؟
قد يكون كل ذلك صحيحًا نظريًّا، بل ومقبولاً أخلاقيًّا، إذا ما كان ثمة موقع للمتوسط يمكن تحديده دون نظر لما يحيط به، وهو ما ينفيه علم الإحصاء؛ حيث يرتبط تحديد قيمة المتوسط بتدرج توزيع بقية القيم، أو بعبارة أخرى فإن الفرد لا يكون “,”متوسطًا“,” إلا بمقارنته بجماعة الأقران؛ ومن ثم فإن متوسط دخل الفرد الأوروبي يختلف عن نظيره في دول الخليج أو مصر مثلاً. وغني عن البيان أن “,”الدخل المتوسط“,” لا يعني بحال أنه يكفي ضرورات الحياة إذا ما كانت موارد الجماعة دون الكفاية، كما أنه لا يعني توافر قدر يزيد أو يقل من العدل الاجتماعي. إن قول المرء إنه يشغل مكانًا وسطًا قد لا يعني بالنسبة له سوى أن هناك من يتفوقون عليه وهناك أيضًا من يتفوق عليهم.
ولقد لاحظت عبر سنوات طوال من ممارسة البحث الاجتماعي النفسي على المستوى الميداني والاستشاري والتعليمي، أن نتائج العديد من الاستبيانات تشير إلى أنه إذا ما طُلب من الفرد أن يحدد موقعه بالنسبة للآخرين؛ فإنه غالبًا ما يميل إلى تصنيف نفسه ضمن “,”المتوسطين“,”، سواء أكان السؤال متعلقًا بالدخل أو التدين أو الاتجاهات السياسية، أو حتى التدخين أو الالتزام بقواعد التغذية الصحية. ولعل شيوع ذلك الميل يرتبط بحقيقتين؛ تتعلق إحداهما بالعالم الفيزيقي، والثانية بالوجود الاجتماعي:
ليس ثمة وجود للصفر ولا للانهائية في عالمنا الفيزيقي المادي المتغير دومًا؛ ومن ثم فكل موجود إنما يحتل موقعًا ما بين نقطتين متطرفتين مفترضتين نظريًّا، ويترتب على ذلك حقيقة اجتماعية مؤداها أن “,”المتوسطين“,” هم الغالبية دائمًا، وإحساس المرء بالانتماء إلى الغالبية يدعم شعوره بالأمان النفسي الاجتماعي، كما يلعب دورًا حاسمًا في تشكيل سلوكه الاجتماعي، بل وفي تشكيل ملامح شخصيته أيضًا؛ وقد يكون في ذلك تفسير لذلك الميل الغلاب للانتساب للغالبية، إنه سعي للاستمتاع بأمن الوجود في كنف الجماعة الأكبر.
ولعل تقدير الفرد لمكانته الاقتصادية يعد تجسيدًا لمفهوم نسبية الوسطية: إن الغالبية ينفرون من إدراج أنفسهم ضمن أصحاب الثراء الفاحش أو الفقر المدقع؛ فإذا ما وضعنا في الاعتبار أن سلوك الفرد إنما يتحدد وفقًا لذلك التقدير الذاتي، أدركنا مدى أهمية تفسير مثل تلك التقديرات؛ فرغم عمومية ذلك الميل نحو المتوسط لدى الفقراء والأثرياء على حد سواء؛ فإن تفسيره لدى الفقراء يختلف عن تفسيره لدى الأثرياء.
فالفقير المدرك لفقره قد يحجم عن الإفصاح عن إدراكه الواقعي “,”خجلاً“,” أو “,”تطلعًا“,”؛ فهو قد يرى في الفقر نوعًا من الدونية يأباها؛ ومن ثم يفضل إدراج نفسه في الفئة التي ينظر إليها ويتوق إلى أن يكون منها. ومن ناحية أخرى فقد يعجز الفقير عن إدراك فقره إدراكًا واقعيًّا يحكم “,”القناعة“,” والنظر إلى من هم أكثر منه فقرًا.
أما بالنسبة للثريّ المدرك لثرائه فقد يخشى الإفصاح عن إدراكه الواقعي؛ خوفًا من تطلع الآخرين إلى ثروته بشكل ما. ومن ناحية أخرى فقد يعجز الثريّ عن إدراك ثرائه إدراكًا واقعيًّا بحكم سيادة قيم المجتمع الاستهلاكي، التي تشد انتباه الفرد كلما ازداد ثراء إلى أنماط استهلاكية أشد شراهة وأعلى تكلفة، تدفع به دومًا، وعلى مستوى الإدراك الذاتي، إلى فئة المتوسطين، أي الأقل ثراء من أولئك القادرين على استيعاب الأنماط الاستهلاكية الجديدة، وهكذا.
ولا ينفي شيوع هذا الميل نحو “,”المتوسط“,” خضوعه لرؤية الفرد لتفسير الآخرين لإفصاحه عن تلك الرؤية، وما يترتب على ذلك من موقفهم حياله؛ فالأمر يختلف مثلاً إذا ما كان المرء يحاور مندوبًا للضرائب، عنه إذا كان يحاور أسرة يتقدم لخطبة إحدى فتياتها، أما إذا ما كان بصدد الإجابة عن سؤال في استبيان علمي؛ فإن الأمر يتوقف على استنتاجه للهدف “,”الحقيقي“,” لذلك الاستبيان.
وخلاصة ما نراه في هذا الصدد أن التقييم الذاتي للفرد إنما يتأثر إلى حد كبير بطبيعة القيم التي يدعمها المجتمع، والتي تتغير من مرحلة تاريخية لأخرى، والتي تحدد على سبيل المثال ما إذا كان الأفضل اجتماعيًّا أن يتبرأ من “,”وصمة“,” الفقر، أم من “,”شبهة“,” الثراء. ومن ثم ينبغي أن تتجه نظرته صوب من هم “,”أعلى“,” أو “,”أدنى“,” منه اقتصاديًّا واجتماعيًّا.