هذه السلسلة ليست سيرة ذاتية، ولا هى حديث عن النفس، لكن هى محاولة للحديث ولتسجيل تجربة وطنية سياسية شاركت فيها منذ أواسط ستينيات القرن الماضى وحتى الآن. مشاركًا فى تنظيماتها السياسية، سواء كانت منظمة الشباب الاشتراكى والاتحاد الاشتراكي، أو من خلال التجربة الحزبية الثانية بعد 23 يوليو 1952، وهى تجربة المنابر التى تحولت إلى أحزاب سياسية؛ حيث شاركت فى حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى ثم حزب العمل الاشتراكى والحركات السياسية التى تضم قوى عديدة فى ديسمبر 2004، وصولًا إلى هبّة 25 يناير 2011، ثم 30 يونيو 2013.
من المعروف أن الحياة السياسية المصرية طوال التاريخ المصرى الممتد عبر الزمان، قد مرت بنُظم سياسية متعددة ومختلفة، وذلك لظروف مصر وقدرها الذى تحدد بالمكان والمكانة التى حباها بها الله، فمنذ البداية وأصبحت مصر محط أنظار كل الدول الكبرى والإمبراطوريات القادرة، بل وكل أشكال الاستعمار القديم والحديث، حتى إن مصر طوال تاريخها قد شاهدت وعانت ثلاث هجرات جماعية، وواجهت حوالى اثنتين وخمسين غزوة حربية، ومع ذلك ظلت مصر، وستظل تحافظ على هويتها المصرية التى تشكلت عبر التاريخ، تلك الهوية التى أخضعت كل المستعمرين ودمرت كل الغزاة تحت تلك الهوية والهوى المصري، وكان من الطبيعى أن تكون تلك الأنظمة وهؤلاء الحكام هم من أطلق عليهم «الحاكم بأمر الله»، أى الحاكم الذى يصبح ظل للإله، فهو الحاكم والقاضى، والأمر والمُشرع والعافى والمعنف، والذى لا يرد له طلب ولا يُناقش له أمر، وكانت هذه السمات هى سمات الأنظمة الحاكمة فى العالم كله حتى شاهد العالم ذلك التطور الذى جاء مع ظهور عصر النهضة، وظهور الآلات الصناعية بعد اكتشاف البخار، فمع تحول المجتمع من العصر الزراعى الإقطاعى إلى العصر الصناعى، ظهرت طبقة العمال الصناعيين فى ظروف تختلف كل الاختلاف عن ظروف العاملين فى الزراعة، تلك الظروف التى جعلت العلاقة بين العامل وصاحب العمل أكثر تطورًا من العلاقات السابقة، الشىء الذى أوجد ما يشبه جماعات الضغط التى تعبر عن العامل ومشاكله وقضاياه فى مواجهة صاحب العمل، الشىء الذى تطور إلى نشأت وظهور النقابات العمالية التى أخذت شكل تنظيمات لها شكل تنظيمى وقيادة وعضوية ولائحة. وكان هذا الشكل هو بداية لنشأة أنظمة سياسية يكون للشعب فيها دور مؤثر فى الحياة السياسية وفى أنظمة الحكم؛ حيث رأينا تجربة كميونة باريس أو الثورة الفرنسية الرابعة، وهى حكومة بلدية ثورية أدارت باريس لفترة قصيرة فى منتصف مارس 1871، وعلى ذلك بدأ ظهور الأحزاب والحياة الحزبية بصورة أكثر تنظيمًا وتأثيرًا فى القرار السياسى وفى توجيه الرأى العام، هنا لم يكن لمصر ولا للحياة والأنظمة السياسية أى علاقة بفكرة الأحزاب هذه، مع العلم أن من شاركوا أحمد عرابى فى هبته لا يمكن أن نقول إنهم كانوا يشكلون حزبًا سياسيًا بالمفهوم السياسي، ولكن يمكن أن نقول إن الأحزاب قد عرفت طريقها إلى مصر تأثرًا بفكرة الحزبية الأوروبية نتيجة للتواصل بين مصر وأوربا بعد الحملة الفرنسية وأثناء الاحتلال البريطانى لمصر منذ 1882، فظهرت الأحزاب عام 1907؛ حيث شاهد هذا العام موجة من موجات تأسيس الأحزاب فى مصر جعلته يحتل المرتبة الأولى من حيث عدد الأحزاب التى تأسست فيه، فخلال هذا العام تحولت ثلاثة تيارات سياسية، كانت تعبر عن نفسها من خلال الصحافة إلى أحزاب سياسية، فأسس مجموعة من كبار مُلاك الأراضى الزراعية وكبار رجال العائلات، وبعض رجال القانون والصحافة حزب الأمة فى 21 سبتمبر 1907، وكان من أبرز قياداته ومفكريه أحمد لطفى السيد، الذى أصدر جريدة «صوت الأمة»، وتبنى الحزب الفكر الليبرالى ورأى أن الارتقاء بالتعليم وبناء ديمقراطية على أساس من النظام الدستوري، الطريق الوحيد لتحقيق رقى مصر واستقلالها، وبعدها بأشهر قليلة أسس الشيخ على يوسف صاحب جريدة «المؤيد»، حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية، وقد انتهى الحزب بوفاة مؤسسه عام 1913، أما مصطفى كامل صاحب جريدة «اللواء» فقد أعلن تأسيس الحزب «الوطني» فى 27 ديسيمبر 1907، وكان اسمًا يطلق على التيار المعادى للاحتلال قبل تأسيس الحزب، وقد أخذ الحزب بعد وفاة مصطفى كامل، وفى ظل زعامة محمد فريد، أبعادًا اجتماعية فاهتم بالنقابات العمالية والزراعية والتعاونية، وقد غادر فريد إلى منفاه الاختيارى وظل زعيمًا للحزب حتى وفاته فى نوفمبر 1919.
لم يقتصر الأمر على هذه الأحزاب ذات التوجه المصرى فى مواجهة الاحتلال، فكانت هناك أحزاب أخرى تعطى دلالة واضحة عن مسار الحياة السياسية فى ذلك الوقت، فكان هناك حزب يسمى بـ «الوطني»، أيضًا، ظهر فى مواجهة مصطفى كامل، وكان مواليًا للإنجليز واختار جريدة «المقطم»، التى كانت تعبر عن لسان الاحتلال فى مصر ليعلن منها برنامجه، وفى الأعوام التى تلت 1907 تأسست مجموعة من الأحزاب، منها الحزب «المصري» الذى أسسه أخنوخ فانوس عام 1908، وقامت فلسفته على محاولة الحصول على الاستقلال عن طريق الصداقة مع انجلترا وكسب ثقة الإنجليز، كما اعتمد فانوس على الصوت القبطى المنحاز لبريطانيا فى مواجهة مصطفى كامل وحزبه المنحاز لتركيا.
هنا وبشكل عام يمكن أن نقول إن نشأة الحياة الحزبية فى مصر، فى ذلك الزمان وبهذه الطريقة، كانت إرهاصات لحياة حزبية تحاول مجاراة التجربة الحزبية الأوروبية التى تطورت تطورًا طبيعيًا بدءًا من النقابات والعمل النقابى إلى تكوين الأحزاب فى ظل برامج حزبية تحمل رؤية سياسية متكاملة تعبر عنها كوادر حزبية تلتزم بهذه الرؤية.
نعم لا يوجد فى السياسية طريقة الاستنساخ السياسي، فلكل بلد ظروفه السياسية التى يشكلها الواقع الاجتماعى والاقتصادى والثقافى، ولذلك وجدنا الأحزاب قد ظهرت فى ذلك الوقت بفعل نخبة من مُلاك الأراضى وبعض المثقفين الذين تمثلوا فى أصحاب الجرائد الصحفية مع نخبة وطنية كان همها الأهم هو الاحتلال البريطانى، وكيفية التخلص منه ونوال الاستقلال، وفى هذه الظروف النخبوية لا بد أن يكون للزعيم الفرد مكان ومكانة، فشاهدنا أحزابا لا وجود لها بعيدًا عن الزعيم، وأحزابا ما عاد لها وجود بعد وفاة مؤسسيها، وأحزابا نسبة لهذا الزعيم، وحتى الآن. ولهذا ظل اسم مصطفى كامل ومحمد فريد ولطفى السيد وسعد زغلول، مع العلم أن لطفى السيد قد تفرد بأنه لم يكن ساعيًا لزعامة بقدر سعيه لتأسيس مبادئ سياسية وقيم حزبية وممارسات سياسية يؤمن بها، فهو أول من أعلن شعار «مصر للمصريين» فى مواجهة شعار مصطفى كامل «مصر للمسلمين»، ونستكمل بإذن الله.