تكررت على مدى الأعوام السابقة دعوة الرئيس السيسى للجهات المؤثرة فكريا ومعنويا، كالأزهر الشريف ووزارة الأوقاف، إلى ضرورة تبنى منهج لتجديد الخطاب الديني.. دعوة حظت بأصداء إيجابية على الصعيد الدولي، خصوصا أنها تمثل الشق المكمل للجانب الآمن فى الحرب على الإرهاب. للأسف ظل النداء فى انتظار خطوة المبادرة بين ترقب المؤسسات الدينية وتخوفها من الأخذ بزمام المبادرة رغم أهمية وحتمية التجديد.. فى المقابل أدى رفض مشروع قانون «تنظيم الأزهر الشريف» من قِبَل أغلبية أعضاء البرلمان إلى غياب الرقابة عن المؤسسات الدينية التى ما زالت بعض الآراء المتطرفة تتسلل للحديث باسمها بعيدا عن ضوابط النص القرآنى والشريعة الإسلامية السمحة.
بادر الرئيس السيسى باتخاذ مبادرة جادة ذات صلة مباشرة بمنهج التجديد عبر قرار إنشاء لجنة لمواجهة الأحداث الطائفية تتولى وضع استراتيجية عامة لمنع ومواجهة هذه الأحداث وآليات التعامل معها حال وقوعها. مقومات نجاح اللجنة تقترن بمدى صلاحياتها، فالقرار منحها الحق فى دعوة كل من تراه من الوزراء وممثلى الجهات المعنية عند نظر الموضوعات ذات الصلة، كما يكمن تأثير دور اللجنة فى الوقاية من الأحداث الطائفية عن طريق علاج أسبابها اعتمادا على خطة واقعية لآليات المواجهة. حلول «المسكنات» المؤقتة التى تنتهى بها الأحداث الطائفية بجلسات صلح من رجال أمن، شيوخ، قساوسة، لم تقدم حلا جذريا لبتر العنف الطائفي، ما فرض إنشاء لجنة تضم ممثلين من أجهزة ومؤسسات سيادية، تعتمد قاعدة تطبيق القانون على العناصر المتورطة فى أحداث عنف طائفي.. الطرف الذى يحمل وزر هذه الجرائم قطعا معروف.. ميليشيات ورثت عن مؤسسها حسن البنا وهم امتلاك سلطة المحاسبة وتطبيق قوانينها المريضة على الآخرين.. ما يدفع البلاد نحو الفوضى التى يرجونها. عمل اللجنة على أرض الواقع لرصد بؤر خلق هذه الاحتقانات الدخيلة على طبيعة الشعب المصرى وكيفية التعامل معها يقترن بدراسة المناطق الأكثر تعرضا لها مثل محافظة المنيا وغيرها، بما يمكنها من معالجة جذور هذا الملف بعيدا عن كل الأنماط التقليدية السابقة.
ممثلو الجهات السيادية المختلفة فى اللجنة يضعون ملف الفتنة الطائفية داخل إطار أكثر شمولية سواء فى مصادر المعلومات، إذ يضيف إلى الشق الأمنى أجهزة قادرة على التعامل مع الملف فى سياق أكثر اتساعا وحزما مقارنة بالصيغ السابقة. إشراف الرئيس السيسى على اللجنة عنصر ضامن لعدم فتور أو تراجع تأثير أجواء عمل اللجنة نتيجة اعتياد الرئيس على المتابعة المباشرة والمستمرة.
نظرة سريعة إلى تاريخ جذور الوحدة بين مكونات الشعب المصرى تؤكدها ما شهد به حتى الأعداء..حين اعترف اللورد كرومر- معتمد بريطانيا ومندوبها السامى فى مصر خلال الاحتلال الإنجليزي- بفشل سياسة «فرق تسد» فى مصر، بعدما فشل فى العثور على أى ثغرة تفرق بين سلوك الأقباط والمسلمين فى كافة طقوسهم وممارساتهم الحياتية. وتيرة محاولات بث الفتنة تزايدت منذ نهاية السبعينيات مع تضخم مساحة ظهور الجماعات المتطرفة، حيث تكررت الدسائس التى تسعى إلى مس وحدة مصر.. بل إن حالات احتقان كثيرة انفجرت على أساس مختلف نتيجة شائعات أو أقاويل لم تقع أصلا. تاريخيا.. آفة الحروب الدينية وغرس روح التعصب والكراهية لم تقتصر على إثارة الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، لكنها امتدت أيضا بين أتباع الدين الواحد عبر تقسيمه إلى طوائف.. سنة، شيعة، كاثوليك، أرثوذوكس.. الجدير بالذكر أن فكرة التقسيم فى الدين الإسلامى كانت ضمن معتقدات حسن البنا منذ 90 عاما مع تبنى تمييز أعضاء جماعة الإخوان عن باقى المجتمع كونها الفئة المسلمة.. وقصر الإسلام الصحيح على أفرادها دون الآخرين.
مواكبة القرار الرئاسى لعدة أحداث لها دلالات هامة.. ردود الفعل العالمية - تحديدا الأمريكية - على افتتاح أكبر صرحين دينيين، مسجد الفتاح العليم وكاتدرائية ميلاد المسيح، الإشارة الجديرة بالملاحظة، التحول فى معنى كلمة «الشمولية» التى وردت فى تغريدة الرئيس الأمريكى ترامب مع أولى لحظات افتتاح الرئيس السيسى للكاتدرائية.. الشق السياسى للكلمة يعد دلالة على أهمية الحدث والتوقيت بدليل تسليط الضوء الذى حظى به على المستوى الدولي، إذ ضرب فى مقتل تسييس أكاذيب مثل «مسيحيو مصر أقلية مضطهدة» فى إطار أجواء التحفز الدولى التى واكبت ثورة 30 يونيو، «الشمولية» غالبا ما كانت فى الخطاب الأمريكى عن مصر تشير إلى تعبير مشبوه روج له الغرب هو «الإسلام السياسي» رغم عدم وجود ما يعرف بجماعات «المسيحية السياسية» فى أوروبا!.. مجرد عدد محدود من الأحزاب السياسية تضيف كلمة المسيحية إلى أسمائها دون أن تعتمد الإنجيل دستورا لبرامجها السياسية أو تمتلك ميليشيات مسلحة تستهدف أبناء وطنها. أمريكا الآن تستخدم عبر رئيسها كلمة «الشمولية» للدلالة على الاعتراف بروح التسامح وحرية العبادة. تأكيد المعنى ظهر مع استهلال تصريحات وزير خارجية أمريكا بومبيوفى القاهرة بالثناء على جهود الرئيس السيسى فى دعم الحريات الدينية. القرار أيضا واكب زيارة وفد المفوضية الأمريكية للحريات الدينية.. لقاءاتها مع القيادات الدينية المختلفة ورؤيتها على أرض الواقع أزال الصورة المغلوطة التى طالما حاول التنظيم الدولى للإخوان نقلها إلى هذه المفوضية تحديدًا.