الفقر والجوع نكبتان شديدتان تهددان حياة الإنسان، وكيان المجتمعات، فبهما تنتشر الفوضى ويعم الفساد ويكثر الرعاع واللصوص والمرتشون، والمأجورون، والقتلة والذين لا ذمة لهم ولا ضمير، فضلا عن تفشى الأوبئة وذيوع أخبار الهلاك والموت.
ولخطورة الجوع فقد ورد ذكره والتحذير منه مرات عدة في القرآن الكريم. وفيه جاء ذكر الأكل مائة وعشرة مرة وذكر الطعام ومشتقاته ثماني وأربعين مرة. تشير الملائكة على مريم العذراء وهى تلد السيد المسيح أن تهز النخلة ليتساقط عليها رطبًا جنيًا، وتخاطبها فتقول لها «كلى واشربى وقرى عينا» وفيه حذر الله تعالى آدم من إبليس لئلا يخرجه من الجنة فيشقى ويذكره بنعمة الحياة فيها حيث «لا تجوع فيها ولا تعرى».
وخصص أبوحيان التوحيدى صفحات ليست قليلة من كتابه «الإمتاع والمؤانسة» لذكر الأكل والشبع وروى عن يزيد بن ربيع أن الماء والملح هما طعام الأعراب. وقيل لأعرابى ما حد الشبع، فقال: أما عندكم يا حاضرة فلا أدري. وأما عندنا فى البادية فما وجدت العين وامتدت إليه اليد ودار عليه الضرس، وأساغه الحلق وانتفخ به البطن واستدارت عليه الحوايا واستغاثت منه المعدة وتقوست منه الاضلاع والتوت عليه المصارين وخيف منه الموت»!
ويروى ابن الجوزى فيقول: «فى سنة ٣٤٣ ذبح الأطفال وأكلت الجيف... وفى سنة ٤٤٨ عم القحط فأكلت الميتة.. وفى سنة ٤٦٢ اشتد الجوع والوباء بمصر حتى أكل الناس بعضهم بعضا.. وخرج وزير صاحب مصر فنزل عن بغلته فأخذها ثلاثة فأكلوها فصُلبوا. فأصبح الناس لا يرون غير عظامهم تحت خشبهم...».
من هذه الخلفية وكما يقول خالد القشطينى فى كتابه «فكاهات الجوع والجوعيات»: ورثنا كل هذه الثروة من ظرافات الجوعيات ونكات البخلاء والثقلاء والطفيليين. الأدب العربى مليء بحكايات التُخمة والذين تراهنوا على الأكل فأكلوا حتى أشرفوا على الموت. والكثير منهم ما زالوا بيننا.
كثيرة هى المفردات المتعلقة بالفكاهة ومن الغريب حقا أنها ارتبطت بالطعام والأكل والجوع فنجد حسبما يقول الكتاب إن الفكاهة من الفاكهة. والملحة من الملح، والنادرة من الندرة، والنكتة من مرادفات التمر، والهزل من الهزال، والظرف من وعاء الطعام، والكتكتة من القرقرة.
لا يخلو التاريخ العربى من وقائع المجاعات والفقر المدقع والتى معها كما برز السفلة والجهلاء واللصوص والمرتشون والواشون برز الظرفاء والمهرجون الذين جسموا أيما تجسيم حالات الجوع التى بُليت بها المجتمعات العربية ويعد أشعب الطماع، أشهر الظرفاء وأظرف الفكاهيين إذ يعتبر بحق أول مهرج محترف وممثل هزلى عرفه تاريخ العرب. وقد أفرد المستشرق فرانز روزنثال دراسة مستفيضة عنه وعن فنه المستحدث، انتهى فيها إلى القول إن نوادر أشعب تبقى أصيلة ونمطية رغم كل ما ورد فى الأدب اليونانى من فكاهات مماثلة. واعتقد أن السر فى نمطيتها وخصوصيتها أنها ارتبطت ارتباطًا قويًا بظاهرة الجوع والفقر.
أصبحت نوادر أشعب الطماع مثالاً احتذاه الظرفاء فى كثير من النوادر التى وردت فى بطون النثر العربي، ولا سيما فى كتابى الأغاني، والعقد الفريد، لتعبر عن حياة الفقر والقلة والاتكالية والاستجداء التى شاعت فى العصر العباسى الذهبى حيث تزامن الفقر المدقع مع الغنى المفرط.
من نوادر أشعب أنه كان له ولد اعتاد اصطحابه للولائم. ولاحظ أن ابنه يشرب من الماء كثيرًا فى إحدى الولائم السخية فلكزه قائلا له: تملأ بطنك بالماء وأمامك كل هذا الأكل اللذيذ يا غبي! فأجابه ابنه: كلا يا أبتي! إنما أشرب الماء لأزيح ما أكلت من طعام وأفسح المكان لطعام آخر. تأمل أشعب فى جواب ابنه ثم لكزه ثانية: يا لعين! تعرف هذا ولا تقوله لي!
قد تبدو الحكاية طريفة وظريفة لكنها بكل حال من الأحوال تجسم ظاهرة الجوع بأفجع صوره، وتصور كيف هى معيشة المدقعين والمعدمين، فى ظل عصور مضطربة، وولاة لا يبالون بحياة شعوبهم.
يقال عن أشعب أنه كان موهوبًا وكان له صوت رخيم وأجاد الغناء حتى أن المغنى العربى القديم معبد بن وهب الذى لقب بإمام المغنيين كان يعتبره مصدرا يُستشار فى الغناء. وموهبة الغناء مما يتصف به المهرجون عموما فى شتى المجتمعات.
الفقر والجوع لا ينتشران إلا فى المجتمعات التى تضيع فيه الحقائق، كما أن انعدام الثقة فى الحاضر يعد سببًا جوهريًا لانتشار الشكوك فى الماضى والمستقبل. ولا دليل يتوفر لدى على ذلك الآن سوى الجواب الذى أفاد به الكاتب الفرنسى الكبير أناتول فرانس عندما سألوه عن سبب استهتاره بالتاريخ وتجاهله له فأشار إلى حادثة سير وقعت أمام عينه وهو جالس فى شرفة بيته. قال رأيتها بأم عينى ولكنى عندما قرأت ما كتبته الصحف عنها فى اليوم التالى جاء مناقضا كليا لما شاهدته. وأكثر من ذلك لم تتفق الصحف المختلفة فى سردها لما وقع. ناقضت كل واحدة منها الأخريات. كيف تنتظرون منى أن أصدق ما أقرأه فى الكتب عن أحداث وقعت قبل مئات السنين بعد أن رأيت بعينى كيف ضاعت الحقيقة بين ليلة وليلة؟