«لا يؤخذ العلم إلا مِن مَن يعمل به.. لا ينال غاية رضاه إلا من خالف نفسه وهواه.. لا تحتقر أحدا أو شيئا فالله حين خلقه لم يحتقره.. لن تبلغ من الدين شيئا حتى توقر جميع الخلائق.. أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب دينى وإيمانى.. وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر».
هذه بعض وصايا الشيخ الأكبر محيى الدين ابن عربى الذى كرس حياته للعلم وتحمل مشقة السفر والترحال لغرس بذور التنوير ونشر ثقافة التعددية ونبذ الفوارق بكل أنواعها وأطيافها بين الناس ورفع لواء الحب انطلاقا من وحدة الوجود والتأكيد على أن تعدد واختلاف الأديان والعقائد ليس إلا مظهرا من مظاهر وحدة الله.
وقال عنه الدكتور نصر حامد أبوزيد: إن كل من مسه طائف من فكرة يظل يحلم دائما بتجديد صلته به سعيا للتدقيق المعرفي من جهة ولاستيعاب التجربة الروحية التى تتجلى فى كتاباته من جهة أخرى.
من هنا وكما قال أبوزيد فى كتابه «هكذا تكلم ابن عربي» تأتى أهمية إحياء ما تركه الشيخ لنفهم قضايانا المعاصرة وأزمات عصرنا ربما نجد لحلها سبيلا.
لن أخوض هنا فى تناول أبوزيد لسيرة حياة ابن عربى على أهميتها البالغة ولن أخوض في ما قاله صاحب الكتاب عن علم الشيخ الأكبر وتصوفه ورؤيته للخالق والمخلوق وسلطانه على كثير من حكام وملوك عصره ومدى مكانته وعدد تلاميذه ومريديه.
ما لفتنى حقا هو ما جاء فى مقدمة الكتاب من تفسير بديع لما يعيشه العالم الآن، ففى تمهيد الكتاب لخص أبوزيد الأسباب الحقيقية الكامنة وراء كل الصراعات التى تملأ العالم وتضعه فوق صفيح ساخن فهو يرى أن القرن العشرين بكل ما فيه من طفرات علمية وإنجازات مادية مذهلة جعلت من العالم قرية صغيرة بفضل الثورة التكنولوجية الهائلة لكن هذا التقدم الذى يفوق التصور أحيانا شغل المفكرين وزاد من مخاوفهم حول مستقبل البشرية لأنهم رأوا أن كل التطورات المتلاحقة والسريعة فى عالم الاتصالات والتكنولوجيا قد كشف عن كم هائل من التناقضات بين الأغنياء والفقراء من ناحية، وبين المستغِلين والمستغَلين من جهة أخرى.
فى «هكذا تكلم ابن عربي» نعرف «أن التقدم الذى شهده القرن العشرون تجاوز ما حققته البشرية من تقدم فى تاريخها كله بفضل الحداثة التى تمتد جذورها إلى عصر الأنوار فى القرن الثامن عشر».
ويوضح أبوزيد أن فلاسفة التنوير بذلوا جهودا كبيرة لتحرير الإنسان الفرد من إخضاع الكنيسة له ليكتشف بإرادته الحرة كل قوانين الطبيعة باستخدام علوم التاريخ والجغرافيا والاجتماع والإنثروبولوجي.
لكن السعى للوصول إلى هذا التحرر من قوانين الكنيسة المطلقة أدى إلى التركيز على الفردية بوصفها قيمة مطلقة وإلى إسناد قيمة مطلقة أخرى لقوانين العقل.
هذا التحرر كان نتيجة الجهود الكبيرة التى بذلها فلاسفة التنوير لكنهم حين بذلوا جهودهم تلك لم يكن يخطر ببالهم أن ما قاموا بإنجازه سيحمل فى طياته السياسة الإمبريالية للرأسمالية الوليدة التى سعت من خلال هذه الأيديولوجيا إلى امتلاك العالم لتستحوذ على المواد الخام والأيدى العاملة الرخيصة والأسواق المُستهلِكة.
يقول أبوزيد فى كتابه: إن حركة المد الإمبريالية الحامل الأيديولوجى لفلسفة التنوير تنظر إلى شعوب الجنوب بوصفها شعوبا فى حاجة للتنوير ذلك أن المفهوم المطلق للعقل عند التنويريين يفترض النقيض (اللاعقل) بوصفه يمثل تهديدا مباشرا لسلطة العقل واستطاع التوظيف السياسى الاستعمارى الإمبريالى لهذه الثنائية أن يصنف البشر إلى «متحضرين» - هم أبناء الغرب – و«همج» هم من سواهم من البشر أبناء الشعوب والثقافات غير الغربية وأصبح من واجب المتحضرين أن يسعوا لتنوير الهمج».
ومن هنا جاءت كل صنوف العدوان التى مارسها الشمال ضد الجنوب، هذا العدوان هو ما جعل شعوب الجنوب تتمسك بثقافتها لمقاومة ثقافة الشمال التى تهدد ثرواته ومعتقداته بل ووجوده أيضا.
يعتبر أبوزيد أن مفهوم «نهاية التاريخ» لفوكو ياما هو مفهوم دينى فى المقام الأول لأن الأديان فى مهدها تبشر بالخلاص وهكذا يبشرنا فوكو ياما، أن التاريخ قد وصل إلى رحلته الأخيرة ولم يعد أمامنا إلا الراحة فى جنة الرأسمالية والتمتع بنعيم الديمقراطية على النمط الأمريكي.
مفهوم فوكو ياما لم يرق إلى مستوى اليوتوبيا الدينية، التى يتحقق فيها العدل المطلق تعويضا لمن وقع عليه ظلم فى هذه الحياة. وأن العولمة التى بشر بها فوكو ياما ليس بها أى تعويض أو عزاء- ولو محتملا- للضعفاء والمنكسرين.
بعد «نهاية التاريخ» لفوكو ياما جاء «هانتجتون» بـ «صراع الحضارات»، وهنا يطرح أبوزيد سؤالا مهما وهو: أى حضارات تلك التى تنبأ بها «هانتجتون»؟ وهل سيكون الصراع بينها هو سمة القرن الحادى والعشرين؟ إنها كل الحضارات القديمة التى حلت محلها حضارة «الغرب» الحديثة، إنها حضارات «آسيا»، الصين واليابان على وجه الخصوص و«أفريقيا» و«الإسلام» تحديدا.
لم يقل «هانتجتون» شيئا عن الأصولية المسيحية فى أمريكا نفسها، ولم يذكر كلمة واحدة عن الأصولية اليهودية فى إسرائيل، وكلتا الأصوليتين تستعيدان بهاءهما ومجدهما فى عداء واضح لقيم الحداثة وعلمانيتها.
كما لم يذكر «هانتجتون» شيئا عن تفاصيل المشهد لأنه كان مشغولا بأمر واحد محدد: خلق عدو جديد يحل محل «الشيطان الأحمر» وليكن العدو الجديد شيطانا أصفر أو أخضر أو شيطانا بلا لون، فالمهم أن يقوم الشيطان بدور القناع الدينى لإبراز وجه المخلص الأمريكى خصوصا، والغربى عموما.
أليس من الطبيعى وقد صارت العولمة دينا أن يسعى البشر لمقاومة هذا الدين الجديد والتصدى للاهوته المضمر باستدعاء «الدين» فى كل الثقافات بلا استثناء حتى داخل المجتمعات التى صنعت الحداثة؟!.