يتمثلُ دورُ الكنيسة الأكثر سموًا فى التاريخ المصرى الحديث والمعاصر فى الدفاع عن استقلال مصر الوطنى ضد جميع محتليها، وفى المقابل يختفى هذا الإيمان بمصر لدى الجماعات المتطرفة وعلى رأسها جماعة «الإخوان» الإرهابية، التى طالما أعلنَ قادتُها انتماءَهم لمشروعٍ أُممى يتجاوزُ حدودَ مصر الوطنية، يصبحُ فيه المسلمُ ولو كان شرقَ آسيوى أخًا وشقيقًا ومواطنًا حقيقيًا، أكثر من القبطى المصرى أو حتى المسلم العلمانى الليبرالي. بل وأفصحَ بعضُهم عن حُلمهم المثيرِ بالخلافةِ الإسلامية تكونُ عاصمتُها القدس وليس القاهرة، تلك المدينة التى يمكن اعتبارها عاصمةً للتاريخ وليس لمصر وحدها التى شهدت نشأة منف وهليوبوليس، ثم الفسطاط وصولًا إلى القاهرة الفاطمية، فالخديوية الحديثة، وكما هو واضح غياب الإيمان بالوطنية المصرية فى ذلك التباين الحاد بين الذاكرة النفسية للجماعة، والذاكرة الوطنية للمصريين.
فما يعتبرُه عمومُ المصريين مسلمين وأقباطًا ثوراتٍ وطنية مثل ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ وثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣ تعتبرُه جماعةُ «الإخوان» محضَ انقلاباتٍ أفضت إلى هيمنةِ «العسكر»، وما يحفظُه وعى المصريين لجيشِهِم من انتصاراتٍ مجيدة كحربِ أكتوبر ١٩٧٣، اختلطت فيها دماءُ المسلمين بالأقباط فى لوحاتِ فِدَاءٍ تتناساها الجماعة أو تطويها خلفَ هزيمةِ ٥ يونيو ١٩٦٧ العسكرية السابقة على النصر، فى فهمٍ عكسى لحركةِ الزمنِ والتاريخ، وإدراكٍ غبى لروحانيةِ الوطن، وعندما وصلت الجماعةُ إلى سُدَةِ الحُكم على أكتافِ ثُوار ٢٥ يناير ٢٠١١، وتصور المصريون أنها لطولِ مزايداتِها على حُكَامِ يوليو باسمِ الوطنية المصرية، سوف تُسْقِطُ اتفاقيةَ السلام مع إسرائيل، وربما تقطعُ العلاقة مع الولايات المتحدة، لتَشُنَ الحربَ ضد الجميع، فاجأنا رئيسُها المعزول بتحولٍ أسطورى نحو صداقة الأعداء مخاطبًا رئيسَ إسرائيل خطابًا حميمًا، ومقدمًا لحكومتِها ضماناتٍ دأبَ نظامُ مبارك على رفضِها، وعندما انتفضَ المصريون ضد حُكم الجماعة، أخذت تستعدى عليهم الولايات المتحدة الأمريكية بكلِ أشكالِ التزييف الممكنة، بل وتدعوها إلى التدخلِ ضد قواتهم المسلحة.
إن جماعةَ «الإخوان» وأنصارَها الذين تمترسوا فى ميدان «رابعة العدوية» ونصبوا فيها منصةً وخيامًا وعيادةً طبية وفريقًا مسلحًا لصد أية محاولات لفض هذا الاعتصام الغاشم، تهللوا فرحًا فوق منصة «رابعة» وشاركهم المعتصمون كافةً هذه الفرحة التى سجلَتْهَا على الهواءِ مباشرةً قناةُ «الجزيرة مباشر مصر» العميلة لقوى الغرب التى لا تريدُ الخيرَ لمصر، تهللوا فرحًا عندما تمَ الإعلان عن تحركِ الأسطولِ السادس الأمريكى فى البحر المتوسط لكى يُعِيدَ ما يزعمون أنه الشرعية فى مصر ويُعِيدَ الرئيسَ المعزولَ محمد مرسى بالقوةِ إلى قصرِ الاتحادية.. أيةُ خِيَانة وعِمَالة إخوانية أكثرُ من هذا؟.. خيانة تمثلت فى استعداء القوى الخارجية ضد مصر من أجل مصلحةِ الجماعة..!.
وفى المقابل، فإن الراصدَ المُطلع على حقائقِ التاريخ، يجد أن الأقباطَ رفضوا تقاربَ نابليون بونابرت معهم لاستمالتهم باعتبارهم مسيحيين يشاركونه الدينَ نفسه، وعندما رفضَ أقباطُ مصر هذا التقارب لأنهم مصريون قبل أن يكونوا مسيحيين، اضطر بونابرت أن يتقاربَ مع المسلمين من خلال الاحتفالِ بأعيادِهم الدينية وارتيادِ مناسباتهم وحَلْقَاتِ الذِكر، وهو النهجُ الذى اتبعه مَن تلاهُ فى قيادة الحملة الفرنسية، حتى أن القائدَ مينو أسلم وسمى نفسه «عبدالله مينو» تقربًا إلى المسلمين بعد أن أعيت الفرنسيين الحيلَ فى التقربِ لأقباط مصر.
وقد عاودَ الإنجليز المحاولةَ مع الأقباط بعد احتلالهم مصر، إلا أنهم لم يحصدوا إلا النتيجةَ نفسَها من نُفُورِ الأقباطِ منهم وانضمامِهم إلى إخوانهم المصريين فى الكفاحِ الوطنى من أجلِ الحريةِ والاستقلال، وكانت لوحةُ المصريين مسلمين وأقباط خلالَ ثورة ١٩١٩ لوحةً زاهيةَ الألوان تجسدُ ثورةَ وطنٍ ضدَ الاستعمار، وكانت هذه الثورةُ الشعبية هى التى مهدت الطريقَ لقيامِ الجيشِ بحركتِه فى ٢٣ يوليو ١٩٥٢ استجابةً للإرادة الشعبية للمصريين جميعًا.
ورغمَ ما لاقاهُ الأقباطُ المصريون من عنتٍ واضطهاد أثناءَ عامِ حكمِ «الإخوان» الأسود والأسوأ فى تاريخِ مِصْرَ المُعاصر، ورغمَ تعرضِ كنائسِهم وكاتدرائيتِهم للاعتداء، ورغم تعرضِ عشراتِ الكنائسِ للحرقِ والتدمير بعدَ فَضِ اعتصاميْ «رابعة» و«النهضة»، ورغمَ استهدافِ بعضِ الكنائسِ فى القاهرة وطنطا والإسكندرية بالتفجيرات على يد الجماعات الإرهابية، إلا أن عبارةَ البابا تواضروس بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية «وطنٌ بلا كنائس خيرٌ من كنائسَ بلا وطن» سوف يُخلدُهَا تاريخُ مِصْرَ بحروفٍ من نور تتلألأُ فيها روحُ الوطنيةِ الحَقَة التى تخلى عنها بعضٌ ممن يدعون الإسلام، ويريدون الخرابَ لهذا الوطن.
إن جماعةَ «الإخوان» الإرهابية باعت نفسَها لكلِ غادِ ورائح على أرضِ هذا الوطن؛ باعوا أنفسَهم للفرنسيين عندما سعى مؤسِسُها حسن البنا للحصولِ على تبرعٍ من شركة «قناة السويس» التى كان يملكُهَا الفرنسيون بحجةِ بناءِ مسجد، ثم باعوا أنفسَهم للإنجليز بملء الفراغ الذى تركته تركيا بعد انقضاء الخلافةِ العثمانية وإعلانِ الحمايةِ البريطانية على مصر، ومحاولةِ الجماعةِ الناشئة وقتَها الدعوة لإحياءِ الخِلافِةِ الإسلامية مرةً أخرى، ثم باعوا أنفسَهم للنظامِ الملكى الذى كان يستعبدَ المصريين، ونادوا بأن يكونَ الملك فؤاد الأول خليفةً للمسلمين، وكانوا يُطلقون على ابنه «الفاروق» وأنه حامى حِمى الإسلامِ والمسلمين، وكانوا يتظاهرون لتأييده ضد القوى الوطنية الموجودة آنذاك وأبرزها «الوفد»، ثم باعوا أنفسَهم للولاياتِ المتحدة عقب تفاهمات جرت بين الطرفيْن يصلون بموجبِها إلى الحُكمِ بعدَ تفكيكِ نظامِ مبارك شريطةَ حمايةِ أمنِ إسرائيل وإيجادِ وطنٍ بديلٍ للفلسطينيين، وهى صفقةُ القرنِ التى عُقدت مع «الإخوان» فى فترة أوباما وهيلارى كلينتون، وعجزت إدارة الرئيس الحالى دونالد ترامب عن تنفيذها لرفضِ مِصْرَ رسميًا لهذه الصفقة.
يجب على «الإخوان» أن يخجلوا من أنفسِهم بعد أن باعوا الوطنَ ببضعِ قِطَعٍ من الفضة لأعدائِه أيًا كانوا، إن «الإخوانَ» هم «يهوذا الاسخريوطي» العصرُ الحديث الذى باعَ المسيحَ عليه السلام للرومان، ولا يزالُ «يهوذا» بعباءته الصفراء هو الرمزُ الصِرْفُ للخِيَانة فى الأزمنةِ السحيقة، كما أن «الإخوانَ» بشعاراتِهِم الجَوفاء وتاريخِهِم الطويل فى العِمَالة يظلونَ الرمزَ الصِرْفَ للخِيَانَةِ فى تاريخِ مِصْرَ الحديثَ والمعاصر.
خانَ.. يَخُون.. إِخْوَان.. ومِصْرُ بمسلميها ومسيحييها حَجَرٌ صَوَان.. يستعصى على التَفتيتِ والذَوَبَان.. كلُ سَنَة وأقْبُاطُ مِصْرَ بِخَيْرٍ وسَعَادَة بمناسبةِ أعْيَادِ رَأسِ السَنَةِ وعِيدِ مِيلادِ السَيدِ المِسِيحِ عليهِ السَلامِ الذى عَلمنا جميعًا قِيمَ السَمَاحَةِ والمَحَبَةِ والسَلام.. «الْمَجْدُ للهِ فِى الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّة».