العلاقات بين أوروبا والعالم الإسلامى فى قلب أحداث الساعة، لا أحد يمكنه تجاهل هذه الحقيقة. وقد يكون بوسعنا ضرب العديد من الأمثلة على ما نقول: الدبلوماسية الأوروبية مع إيران أو ضمن إطار النزاع الفلسطينى – الإسرائيلى، الجاليات المسلمة المهاجرة فى البلدان الأوروبية، موقع شركات بترولية أوروبية فى الاقتصادات العربية، اتفاقات التبادلات الاقتصادية بين الاتحاد الأوروبى وبلدان المغرب، أو المفاوضات بشأن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبى. إن موضوعات الساعة هذه كلها، وموضوعات كثيرة أخرى أيضًا، قد تقود إلى تعاونات أو تلاقيات أو نزاعات، سوف تظل رهانات رئيسية بالنسبة للمجتمعات الأوروبية والإسلامية على امتداد القرن الحادى والعشرين كله وبعده بكثير.
والحال أن تاريخ هذه العلاقات الثرية والمعقدة، هو ما يطرحه ثلاثة من أشهر مؤرخى فرنسا، هنرى لورنس وجون تولان وجيل فينشتاين فى كتاب ضخم بعنوان أوروبا والعالم الإسلامى.. تاريخ بلا أساطير والذى نقله إلى العربية بشير السباعى والصادر مؤخرا عن المركز القومى للترجمة. ويبدأ الكتاب بثلاثينيات القرن السابع، حيث تتنازع جيوش القسطنطينية والمدينة المنورة على السيطرة على سوريا – فلسطين. ومنذ ذلك الحين، خلال نحو خمسة عشر قرنًا، كانت العلاقات متصلة وعظيمة التنوع: حروب، فتوحات، استردادات، دبلوماسية، تحالفات، تجارة، مصاهرات، تجارات عبيد، ترجمات، عمليات نقل للتكنولوجيا، تقليدات على المستوى الفنى والثقافى. وبعيدًا عن أن تكون هذه الاتصالات غرائب هامشية فى تاريخ الشعوب الأوروبية والإسلامية، فإنها قد تركت بصمة عميقة عليها.
على أن أهمية هذه العلاقة وثراءها واتساعها الجلى تمامًا لمن يعرف تاريخ أوروبا أو تاريخ البلدان الإسلامية ليست واضحة بالنسبة للجميع. فعلى العكس مما نقول يزعم صمويل هانتنجتون، عالم السياسة الأمريكى، أنه «خلال الجزء الأعظم فى تاريخ البشرية، ظلت الاتصالات بين الحضارات، حيثما كانت هناك اتصالات بين الحضارات، اتصالات متقطعة»؛ وقد يكون اعتبارًا من حملات الاستكشاف والاستعمار البرتغالية والإسبانية، عند منعطف القرن السادس عشر، وليس قبل ذلك، أن الحضارات تدخل فى اتصال دائم بعضها مع البعض الآخر. وعلى أساس هذا الخطأ التاريخى الجسيم، يبنى هانتنجتون أطروحته الشهيرة عن «صدام الحضارات» والتى تذهب إلى أن عددًا محدودًا من الحضارات جد المتمايزة (الغرب، العالم الإسلامى، الصين) يتطور بشكل مستقل نسبيًا، وثم يصطدم بعضه بالبعض الآخر. والجزء الأول من الكتاب مُكرس لتاريخ العلاقات فى العصر الوسيط، أى منذ ثلاثينيات القرن السابع إلى القرن الخامس عشر، «عالم الجغرافيين»، بالنظر فى الكيفية التى تصور بها الجغرافيون العرب والأوروبيون فى العصر الوسيط العالم والشعوب التى تحيا فيه. وسوف نولى انتباهًا خاصًا إلى صورة الأوروبيين فى الجغرافية العربية وإلى صورة الشرق فى الجغرافيا اللاتينية. وفى الأرض المسيحية كما فى الأرض الإٍسلامية، غالبًا ما استخدمت أيديولوجيات الحرب المقدسة لتبرير الفتح على حساب ««الكفار»، كما سوف نرى فى الفصل الثانى، المُكرس لتطور مفاهيم الجهاد والحملة الصليبية والــReconquista، وهى أيديولوجيات تمجد الحرب التى تخاض فى سبيل الدين «الحق» وإن كانت نادرًا ما تستبعد التحالفات السياسية والعسكرية مع أمراء الدين المنافس. وهذه الأيديولوجيات لا تمنع الأمراء من ترك مكان محمى للأقليات الدينية وإن كان مكانًا تابعًا. وسوف يدرس الفصل الثالث مصير الأقليات المسيحية فى البلدان الإسلامية فى أوروبا ومصير الأقليات المسلمة فى البلدان المسيحية. وتؤدى التجارة فى عالم البحر المتوسط إلى نسج علاقات قوية بين المدن البحرية الأوروبية (كيبزا والبندقية وجنوه وبرشلونة) وموانئ العالم الإسلامي، وتمارس، خاصة اعتبارًا من القرن الثانى عشر، تأثيرًا عميقًا على كل المجتمعات التى تمسها. أما الفصل الخامس، فيتناول التبادلات الفكرية والثقافية والفنية: وبالأخص النثر العميق للعلوم والفلسفة العربية فى اليقظة الفكرية فى أوروبا اعتبارًا من القرن الثانى عشر. ويعالج الجزء الثانى ما يسميه المؤرخون بالحقبة الحديثة، أى الحقبة الممتدة من أواخر القرن الخامس عشر إلى أواخر القرن الثامن عشر. ويمكن الاعتراض على هذا التقسيم، الذى ينطوى بالنسبة للتاريخ الغربى على معنى (كان قد جرى القيام به بحُكمه) أكثر مما بالنسبة للتاريخ. على أنه يجد تبريرًا معينًا له بقدر ما أن هذه الحقبة، فى داخل التاريخ الإسلامى نفسه، تُقدم بعض خصائص كانبثاق وازدهار عدة إمبراطوريات عظمى تحل محل التفتت السياسى الهائل الذى عرفته المرحلة السابقة: إمبراطورية المغول الكبار فى الهند، إمبراطورية الصفويين الشيعة فى فارس والإمبراطورية العثمانية. والمهم بالأخص هو أن الاعتراف بأن هذه الحقبة تتميز بتغيرات عميقة فى أوروبا، الدخول إلى الحداثة، إنما يعنى الاعتراف أيضًا بان العلاقات بين أوروبا والعالم الإسلامى تدخل فى هذه الحقبة فى مرحلة جديدة.
وللحديث بقية