كما البدائى، حين قرع حجرًا بحجر، فانبثقت شرارة النار، فخطا خطوته الأولى على درب التحضر، كان الفتى حين انبثقت تلك الشرارة من عينيها.
هى نظرة فابتسامة، بغير سلام، ومن ثم تبعثر الجمر فى أعصاب قلبه الطرى.
أبصرها تنتظر حافلة المدرسة، ترتدى «مريلة كحلية»، خفق قلبه خفقة «زلزالية» حتى كاد «ينط» من قفصه الصدري.
فلسطينية بيضاء، تميل إلى الامتلاء قليلًا، فى الخامسة عشرة، شعرها أسود حالك، غجرى مجنون، وجهها مستدير استدارة هندسية تامة، عيناها سوداوان، ذات جبهة عريضة، ولها غمَّازة «نُغزة» على خدها الأيسر، تنجلى متى ابتسمت.
المسافة بينهما بضعة أمتار... عفويًا من دون ترتيب، ولا خبرة سابقة بـ«المغازلة»، وضع يديه على قلبه، ابتسمت، ظهرت الغمّازة، طوّحت شعرها الذى ينسكب شلال ليلٍ على كتفيها وظهرها، فإذا بقلب الفتى الذى بلغ لتوه السادسة عشرة، يذوق طعم تلك الصاعقة الكهربائية عالية التردد، وإذا به يختبر فيما بعد، كيف تحترق الوسادة تحت رأسه؟ وكيف تنهمر دموعه بغير سبب؟ وكيف يشرع فى محاولات بريئة وساذجة فى كتابة الشعر؟... الشعر، هذا النزيف الجليل.
لحظة فارقة من تاريخه، غادر خلالها الطفولة الغريرة، الوادعة، إلى جحيم المراهقة المتأجج.
صحيحٌ أن طفولته لم تكن هانئة، فقد أدرك، وهو دون السادسة معنى الغربة، الذى بقى معه، كبقايا الكى بالنار: «وعرفتُ فى وقتٍ مبكرْ/ أوجاعَ الرحيلْ/ لمَّا مضى إلى المنافى والدي/ يقتفى الرزقَ الحلالْ/ وانتهى الحُضنُ الزُلال، إلى حروفٍ ظامئاتٍ فى خطابْ: أبى العزيز/ ماذا أقولْ/ اليومَ صليتُ العِشاءْ/ حمدتُ اللهَ/ أثنيتُ على الرسولْ/ وأنا بخيرٍ يا أبي/ قرأتُ قصصَ الأنبياءْ/ أحببتُ يسوعَ المسيحْ/ متكلمًا بالحقِّ وبآى البراءةِ/ وهو فى مهدٍ صبي/ وشغفتُ حقًا بالبتولْ/ وعرفتُ نوحًا/ هل ستدركُنا السفينةْ؟/ أخى تعلّم بعض آياتِ الكتابْ/ وأنا- يقول مدرسي- جدًا ضعيفٌ فى الحسابْ/ لكننى فى النحوِّ أحسنتُ الجوابْ/ أمى بخيرٍ، وهى تهديك التحية/ وجدتى تروى حكاياتٍ مكررةً سخيفةْ/ عن سندبادِ البحرِ والعنقاء/ وجنيّةٍ مخيفةْ/ شجرةُ الموزِ الجديدةِ أثمرت/ والمانجو لم تعطِ الثمرْ/ ربما... حين يكتمل القمرْ/ كل شيءٍ، كما يُرامْ، وفى الختام/ لكَ قبلةٌ وتحيةٌ وسلامْ».
كان الفتى يكتب لأبيه كل يوم خطابًا، فلا يبوح بأحزان تدك سنابكها ضلوعه، ممتثلًا لوصية أمه: «لا تبح له بحزنك، حسبه أنه فى غربته من أجلنا».
مع الخفقة الأولى، عرف أحزانًا أُخرى... إنه يدرك أن تلك المشاعر التى لا يفهمها، على وجه اليقين، تعنى الحب، لكن كيف يتعامل مع الواقع المباغت القاسي؟.
استوقفها مرةً، أراد أن يقيم جسرًا من الحوار، لكنه تلعثم، سال عرقه غزيرًا، كان انتقى عبارات بليغة منمقة، لكن مفرداته تبخرت، نظر فى عينيها، إذ كانتا تستنطقانه فى حيرة، ثم هرب فجأة... لم يقوَ على المواجهة، فقد ذبحته عيناها: «كل السيوفِ قواطعٌ إن جُرِّدت/ وسيفُ لحظِكَ قاطعٌ فى غمدِهِ».
يدور فى غرفته كنمرٍ جريح، إنه غاضب، يؤنب نفسه، يلعن تخاذله، كيف ضيّع الفرصة وقد لا تستعاد؟ ماذا عساها تقول؟ جبان رعديد، تافه، ضم قبضته ولوّح، كأنه يتحدى أشباحًا غير مرئية: «سأقول لها: أحبك، الأمر لا يحتاج تنقيبًا فى المعاجم، أحبك كلمة جامعة مانعة»... وسرعان ما كان تحت شباكها، ولما أطلَّت من الطابق الرابع، بعد عدد لم يحسبه من الساعات، لم يأبه للمارة الذى يرمقونه، ولا أصحاب المتاجر الذين يراقبونه، وضع يده على قلبه، مسترجعًا المشهد الذى راق لها، ثم صرخ بأعلى طاقات حنجرته الصوتية: «بحبك.. والله العظيم بحبك».
انتابه شعور بأن صوته يتدفق من مئذنة، إن كلمة «أحبك» كإقامة الصلاة.
رغم خوفها من ذويها، ومن أعين الرقباء، طوّحت شعرها للخلف، فملأ الأرض من مشرقها إلى مغربها، كاد يسقط مغشيًا عليه: «مدد.. يا واحدًا يا أحد».
وهكذا.. عرف «وجع الكتابة»، وسرعان ما أصبح الرفاق يقصدونه، فيكتب لهذا خطابًا يصالح به محبوبته، أو يعبر لها عن مشاعره، وقتها لم تكن البشرية قد عرفت بعد وسائط الاتصال، وكان خطه العربى الجميل، من أهم سفرائه إلى قلوب الحسناوات، صحيح أنه لا يعرفهن، ولا يعرفنه، لكنه كان يفرح جدًا، متى أعجبتهن كلماته.
كانت الخفقة الأولى، التى أحدثتها تلك الفلسطينية، طوفانًا عارمًا، ولم يكن يعرف فن العوم، ولا يعرف كذلك الطريق إلى سفينة النجاة.
سافر معها إلى بلاد الأحلام، رسم مستقبلًا ملونًا كأصداف البحر، صنع لها فى ضلوعه هيكلًا، رقاها بالمعوذتين: «من شر حاسد إذا حسد»، غير أن الحياة لا ترحم الأبرياء، فجأة تزوجت ابن عمها، وقبيل عقد القران، تلقى رسالة اعتذار: «أهلى أجبروني».
ليلتها، بكى الفتى، وكان بلغ الثامنة عشرة، بكاءً لم تذرفه المآقي، بل نزفته روحه، دلف إلى الحمام، فأمسك شيفرة حلاقة: سيمزق شرايينه.. هكذا قرر، سيموت فداءً لا للمحبوبة الخائنة، بل لما فى قلبه من صدق، ارتعشت يداه، خاف أن يلقى الله كافرًا، أو لعله خاف الألم.
لم يفكر بعدها فى الانتحار، بلعته أمواج الحسرة مرارًا، وقع مكسور الوجدان كثيرًا، وفى كل مرة كان يلوذ بالكتابة.
إن الكتابة هى انتحاره الممتد، ووجعه الشهي، وهى تذبيحه قلبه على أوراقه البيضاء، وهى فرحته العارمة بنزيفه حين ينهمر.