منذ ظهرت الولايات المتحدة الأمريكية على الساحة السياسية، وهى معروفة بأنها أرض العجائب وكل شىء جديد، فقديمًا كان يعرف عن الحاكم أو الملك أنه قائد جيوش تلك البلد وزعيمها وخلفيته العسكرية، هى العامل الأساسى فى دعم وجوده فى الحكم ومع تطور الأزمان توارى هذا العامل قليلا، خاصة فى دول العالم الأول، ولكن كعادة أمريكا دائما تفاجئنا بكل ما هو جديد صعد إلى سدة حكمها رجل أعمال من طراز فريد وغريب وعجيب، اعتاد أن يفاجئنا بقراراته المثيرة للجدل وغير المعتادة فى - ظاهرها - من بلاده.
فمنذ أن قرر الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الأسبوع الماضى، سحب قواته العسكرية من سوريا، تعالت ردود الأفعال من أنحاء العالم ومن داخل الولايات المتحدة نفسها، وزير الدفاع جيمس ماتيس أحد القادة الكبار فى العسكرية الأمريكية يعلن استقالته، غضب فى أوساط الحزب الجمهورى واعتراضات بين الديمقراطيين، وحتى البنتاجون يرفض القرار تقريبا، ويحاول التحايل بتمرير قانون بعد توقيعه من ترامب نفسه يسمح بوجود وحدات أمريكية خاصة فى الأراضى العراقية بمحاذاة الحدود السورية، حيث يمكنها الدخول والإغارة على القوات المنسوبة لداعش التى تريد واشنطن القضاء عليها منذ سنوات.
على الصعيد الآخر، روسيا لا تخفى سعادتها بالقرار الذى يعنى انتصارا رمزيا لها ولمعسكرها الذى يضم إيران إلى جانب بشار الأسد فى مواجهة الميليشيات المسلحة، واعتبر مسئولون روس قرار ترامب بالانسحاب قرارا صائبا، وإن أبدى وزير الخارجية سيرجى لافروف وعدد من مساعديه تريثهم، لحين وضوح الرؤية ومعرفة آليات تطبيق القرار، وما إذا كان سيعنى انسحابا حقيقيا أم إعادة توزيع القوات على الأرض.
إيران بدورها، اعتبرت القرار تصويبًا لخطأ كارثى ارتكبته واشنطن من البداية، ويرى آيات الله فى طهران أن الفرصة سانحة لتعزيز الوجود فى مختلف المناطق السورية، ليس فقط بالقتال إلى جانب الجيش العربى السورى، ولكن من خلال عمليات الإعمار المحدودة، والمنتظر أن يتم التوسع فيها مستقبلا بعد إقرار نظام انتخابى جديد، وتوجيه مليارات الدولارات إلى إعادة اللاجئين السوريين فى أوروبا إلى أراضيهم.
نتنياهو لم ينتظر، وفور إعلان القرار، أعلن أن سوريا ستكون ميدانًا لحرب مع إيران على كافة المستويات، وهو بذلك يشير إلى إمكانية أن يحل محل الأمريكان فى الهيمنة الجوية على مناطق محددة من سوريا وتنفيذ ضربات ضد المصالح الإيرانية فى سوريا، بتكليف أمريكى أو لرغبة أمريكية بعدم التورط فى تنفيذها، ومن ناحية أخرى، يخوض نتنياهو حربه الاستعمارية لسلخ الجولان السورى عن الدولة السورية، وضمه إلى إسرائيل من خلال تكريس وجوده العسكرى فى سوريا بزعم سد الفراغ الأمريكى ومواجهة الإرهاب.
أردوغان كان يستعد لتوسيع عملياته العسكرية شرق نهر الفرات لضم مزيد من الأراضى السورية والعراقية، ومنع أى انتشار للقوات الكردية المدعومة أمريكيا والمسماة بـ«قوات سوريا الديمقراطية»، إلا أن أوامر واشنطن أرجأت تنفيذ عملية الاجتياح الجديدة، التى كان يستعد لاستخدامها سياسيا كعادته للتشويش على تردى الأوضاع الاقتصادية، وتراجع الاستثمارات وانهيار الليرة التركية، ومع ذلك أعلن أردوغان ومسئولوه العسكريون أنهم لن ينتظروا طويلا حتى يبدأوا تنفيذ عملياتهم العسكرية شرق الفرات.
الدول الأوروبية الكبيرة شركاء ترامب فى حلف الناتو غاضبون من إعلانه الانسحاب من سوريا، فقد أعلنت فرنسا وبريطانيا وألمانيا عزمها الإبقاء على وجودها هناك، مع دعم قوات سوريا الديمقراطية فى الشمال السورى، مع دعوات الأكراد بفرض منطقة حظر جوى أوروبية على مناطق الشمال المحاذية للحدود التركية، لمنع أى هجوم تركى مع توعدها بالقتال لآخر رجل حال اجتياح أردوغان مناطق السيطرة الكردية.
مع عناصر الصورة هذه، هل يمثل انسحاب القوات الأمريكية من سوريا نوعا من الحل؟ هل يمثل بداية التهدئة فى الأراضى السورية على أساس أن انسحاب الأمريكيين، لا بد أن يعقبه بالضرورة انسحاب بقية أطراف الصراع؟ أم أن واشنطن لن تسمح أصلا بعودة الهدوء إلى سوريا إلا بعد تنفيذ مخططها الرئيسى بتقسيم الأراضى إلى عدة دويلات أو تدمير البلاد كليا؟ الأرجح أن ترامب لم يقصد نهائيا عودة السلام إلى الأراضى السورية، ولكنه كان دقيقًا فى وصفه المرحلة الجديدة من الحرب على الأراضى السورية التى يجب أن يخوضها الآخرون.
ترامب يعلن فى كل تصريحاته وتغريداته التى تلت قرار انسحاب قواته من سوريا، أنه يعمل على الوفاء بكل وعوده الانتخابية، ولكن هل مجرد الوفاء بوعوده الانتخابية، هذا المبدأ النبيل الذى غالبًا ما يتغاضى عنه السياسيون الناجحون فى دخول البيت الأبيض، هو ما يلزم ترامب بإلقاء قنبلته السياسية الجديدة لتتجاوز شظاياها الداخل الأمريكى إلى أوساط حلف الناتو ومنطقة الشرق الأوسط بكاملها؟
ترامب يراجع حسابات تتجاوز الـ٥ تريليونات دولار، أنفقتها الإدارات الأمريكية المتتابعة فى منطقة الشرق الأوسط وأفغانستان خلال السنوات العشر الماضية، ثم يتساءل بحرية تاجر العقارات الناجح: لماذا علىَّ أن أدفع كل هذا المبالغ المالية، ثم لا أتكبد إلا مزيدًا من ضجيج الساسة المحترفين وأساتذة الجامعات المتشنجين، بالإضافة إلى تكاليف علاج وتعويضات ومعاشات عشرات الآلاف من العسكريين الضحايا والمصابين؟ ولماذا لا يدفع الحلفاء الذين تشارك الولايات المتحدة حمايتهم بقوتها العسكرية المفرطة وتأثيرها السياسى الدولى تكاليف تلك الحروب الباهظة بما فيها مصاريف الوقود والإعاشة ورواتب الجنود المشاركين فى الأساطيل المنتشرة بين المحيط الهندى والخليج العربى إلى البحر المتوسط ومضيق جبل طارق؟
مبدأ ترامب الجديد الذى يسعى إلى فرضه على جميع دول العالم، هو «يجب أن تدفع»، الحلفاء يجب أن يدفعوا الكثير لقاء الحماية والاستقرار، والخصوم لا بد أن يدفعوا مقابل السلام أو مقابل عدم التعرض للعدوان والعقوبات العسكرية والاقتصادية، من كان يدفع سرًا سيدفع علنا أضعاف ما كان يدفع، ومن كان لا يدفع مكتفيًا بشراء عقود التسليح الزائدة عن الحاجة، لن يعود ذلك كافيًا سواء بالنسبة للشركاء فى حلف الناتو وأوروبا أو فى منطقة الشرق الأوسط أو شرق آسيا.
ما يحدث الانقسام والجدل فى أوساط السياسيين والعسكريين المحترفين، تصوير البعض ترامب أنه لا يعى المكاسب الهائلة التى تجنيها الولايات المتحدة من جراء وضعها الدولى والعسكرى وانتشارها فى مختلف مناطق العالم، هذا الوضع الدولى الاستثنائى يوفر للولايات المتحدة فرصة السيطرة على جميع مناطق الثروات الطبيعية فى العالم، وكذلك منافذ العالم ومناطقه الاستراتيجية من نيوزيلندا إلى آلاسكا، وأن هذه المكاسب لا تقدر بثمن، وأن الـ٥ تريليونات دولار التى يضيق بها ترامب ربما لا تساوى مقدار النفوذ الهائل، والتمكن من الثروات ومقادير السياسة فى قارات العالم الخمس.
هل ترامب فعلا لا يدرك المكاسب المهولة والسطوة الغالبة المتحققة للقوات الأمريكية فى الخارج؟ وهل فعلا قراراته بالانسحاب من مناطق النزاع الساخنة وصداماته مع الحلفاء ستجلب على واشنطن خسائر استراتيجية هائلة؟ ربما تكون الإجابة عن السؤالين السابقين بالإيجاب، لكن عقلية تاجر العقارات التى يحكم بها ترامب تريد الجمع بين حصد المكاسب الاستراتيجية والسطوة الغالبة فى جميع مناطق العالم، دون دفع أى تكاليف مالية بما فى ذلك الوقود الذى تحرقه بوارج وسفن الأساطيل الأمريكية التى تجوب بحار العالم ولا الذخائر والصواريخ التى تطلقها الطائرات والمدافع.
نعود إلى سوريا والانسحاب التدريجى لمجموعة القوات الخاصة الأمريكية وعددهم لا يتجاوز الخمسة آلاف مقاتل، ترامب لا يهمه السلام فى سوريا ولا يهمه أن تحترق البلاد، وأن يتشرد أهلها لاجئين فى جميع بلاد العالم، كل ما يهمه ألا يمتد خط الغاز الروسى إلى أوروبا وألا تزيد سطوة الثنائى الروسى والإيرانى فى البحر المتوسط، وسيعمل على ذلك بكل ما أوتى من قوة، ولكنه لا يريد أن يدفع سنتا واحدا مقابل تنفيذ المشروع الأمريكى الاستعمارى الجديد.
سيكون هناك كلام كثير عن نهج ترامب فى السياسة الخارجية، وعن صراحته الوقحة فى التعبير عن القدرة العسكرية الأمريكية وسطوتها على العالم وعما يريده من إتاوات نظير حمايته أو صمته، وستظل سوريا تعانى الأطماع والحروب والمآسى خلال سنوات مقبلة، بعد انسحاب الأمريكيين، لكن من المؤكد أن كيانات جديدة ستظهر للمواجهة، فإلى أى مدى ستستمر الأمور هكذا فى المنطقة، هذا ما ستفصح عنه الأيام المقبلة.