السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

صنايعية "الوجع والحلم"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كأنهم قدوا من صخرة واحدة، الأحاسيس نفسها تملأ الأنامل "الشقيانة"، والمياه البيضاء زحفت بنفس البطء والجسارة إلى أعينهم معا، وانحسر النور عن العيون ليتبقى لهم الإحساس "صانعا مجيدا"، لم يستطع الزمن أن يثنيه عن الإبداع والتطور.. الثلاثي كمال وحربي وسعيد إبراهيم رسلي، ذلك الوجع الذي تحول بـ"حب الحرفة" إلى قصة إنجاز باقية بمركز نقادة في محافظة قنا.
ثلاثي الفخار.. العمى "ألوان للنجاح"
في غرفة صغيرة، أمام طاولة الطين - المادة الخام للفخار - همس حربي، قبل 13 عاما، عندما أصاب العطب العيون بسبب المياه البيضاء الزاحفة، لشقيقيه: "إحساسنا كيف ما هو، والرزق يحب الخفية، هنشتغل في صنعتنا إللي اتعلمناها وحبناها وأكلتنا عيش، هنواصل الحياة"، كمال ارتعدت كفه وتحسس كتف أخيه – معلم اللغة العربية – "حتى انت يا حربي مصمم؟"، ليرد الأخير: "أكل العيش مر يا اخوي".
بضغطات مدروسة على حبيبات الطين، وحركة متقنة من الأقدام يحركون بها عجلة دولاب الفخار، تولد من الظلام أعاجيب الفخار السالبة للقلوب والعقول، ينزعونها بترفق ويضعونها في الشمس لتجف، مع همهمات - مدروسة بدورها – يفهمون إشارات بعضهم كأن عيونهم لا زالت تنطق بالحياة.
10 من الأبناء يصولون ويجولون حول آبائهم، يساعدونهم في رص العجين والإحساس، يجوبون بعيونهم دولاب الفخار ليتعلموا كيف تصنع النظرات المنطفئة من آبائهم تلك الأعاجيب، يهمس الأب الأكبر للصغار: "الصنعة تكفى، الطينة حتة مننا مش هنغلب نشكلها كيف ما راد رب العباد".
"إنتاجهم كان كافيا لهم، كفاية الله للثلاثي الكفيف لم تكن محض صدفة، فالله لا يحابي الجهلاء، بل يضع يده مع عاجني الطين بمحبة وإحساس ودراسة"، هي الحكمة التي خرجت من فم الأخ حربي، معلم اللغة العربية الذي يخرج صباحا ليبث حب العمل في نفوس تلاميذه، يصدح دائما بمبدأ أن "التعليم الحرفي قادر على إطعام الجياع، والحرفة مهما كانت تقدر توّكل أمة بحالها".
منير ذلك الجانب من الحياة المهنية في مصر، تلك الصدور الناهضة، بأمسياتها المليئة بالحكم المنثورة على أسماع الأبناء، "العلم في الراس مش في الكراس"، فلو كانت العين كراسا للصانعين، فإن إحساس الثلاثي كان غالبا عليه، كان الثلاثي - ككل مصري غيور وطني - يستشعر المسؤولية ويتحسس طريق الفلاح، على درب الصناع الأوائل للحضارة.
أيد صغيرة تهش الطير عن الإنتاج الطيني الباسق، تجري خلف الأفراخ أو العصافير حتى لا يحط على الرزق/قلل الفخار، تحلم بيوم تكلف فيه بالصناعة بدلا من جمع العجين وتحضيره، الأبناء هؤلاء الصغار ينظرون بفخر إلى الصناع الكبار، لا يتخلون عن حلم التعليم الفني، الذي سيبقيهم في الجلباب ذاته، الجلباب الموشوم بطين الأرض، كأنما هو مدهون بداء المحبة والطمأنينة، طمأنينة العيش وقتل الحاجة.
لا نظرة متدنية هنا على أصحاب الحرفة والصنايعية، كأنما تعلم أهل الصعيد أول خطوات النجاح الفني، دون دراسات أو أبحاث تحط اليد دائما على ضرورة تغيير نظرة المجتمعات إلى التعليم الفني، وتحويل الحرفة إلى رغبة ضمن رغبات طالبي العلم، القاعدة هنا معروفة، الإشادة تبدأ من الصنعة "انت واد صنايعي يا أبو عمو".
ثلاثي الزراعة.. "الماء والخضرة والحلم الحسن"
جابر ومحمد وعبدالله، كيف لهذا الثلاثي الكفيف أن يحكم الأرض، تلك القطع المنزرعة على مهل، بزرع غير ناطق، يستطيع الشبان الثلاثة النظر إلى أعمق ما فيه، يحصدون ما آن أوان حصده، ويستحيون الباسق منه يروون منه الظامئ إلى الماء، ويطيبون التربة أسفل المحتاج فيه.. يتحسسون بأنامل خبيرة سنابل القمح العفية فيدركون عبر تلامس رفيق ما تحمله السنبلة وموعد الحصاد.
عبدالله ومحمد وجابر، 25، 23، 19 عاما، علمتهم الأرض، في مركز الوقف بمحافظة قنا الرؤية، كما علمتهم الحاجة الإحساس وقدت بصيرتهم من نار.. الغرفة الآيلة للسقوط من الطوب اللبن التي يفترشونها علمتهم أن حرفة الزراعة، التي امتهونها مقابل يومية 25 جنيها، مع عدم امتلاكهم للأرض، هي الحياة بذاتها، يمنحون فيها النبات العمر الزاخر بالثمر، ليمنحهم قبلة الدهر الحانية.
جابر الصغير لم يترك حلم "العلام"، فـ"العلم يبني بيوتا لا عماد لها"، هكذا يرى جابر، يحلم ويحلم ويحلم رغم ضيق العيش والغرفة، يضع على كاهل الحرفة، التي تعلمها منذ الصغر، عبء تحقيق الحلم، "اخواتي كمان بيحلموا، بيحلموا يعيشوا حياة كويسة زي ما الزراعة وعداهم، الزرع بيتكلم وبيطبطب، وبيخلينا مانبطلش نحلم".
التدريب المهني في حياة الأشقاء الثلاثة لا ينتهي، فالأرض تعلمهم وتربيهم، وتحنو عليهم، وسط منظومة من التعليم الفني يحلم الشقيق الأصغر أن يكون أحد أبنائها في "كلية تكنولوجية"، ضمن الثماني كليات التي أمر الرئيس عبدالفتاح السيسي بسرعة إنشائها لتستوعب طالبي العلم الفني، لدرء النظرة المتدنية لهم وتوفير قوت الأرض لأهلها.
التعليم الفني الذي يعلمنا كيف نعيش!
التعليم الفني، يعلمنا كيف نعيش، كيف ننتج ما نرغب، لا بد أن تصبح هذه هي النظرة إلى كل خريجيه، وربما حديث الرئيس عبدالفتاح السيسي الواضح القيمة والدلالة بشأن ضرورة تغيير ثقافة المجتمع تجاه خريجى مدارس ومعاهد التعليم الفني، خلال مؤتمر الشباب بشرم الشيخ، يؤكد أن القيادة السياسية متوجهة بقوة لإقرار قيمة التعليم الفني في النهوض بالاقتصاد الوطني.
التجربة الألمانية في التعليم الفني، التي تسير القيادة نحو تبنيها في مصر، ضمت بين جناحيها 80% من الشباب لدرجة جعلت المجتمع الألماني نفسه ينظر إلى هذا الفرع من التعليم نظرة فخر وإكبار، جعلته يعتبره دون سواه "سر النجاح"، وهو ما أكده تورستن سكليتش، مسؤول في المكتب الألماني للتعاون الدولي في التعليم والتدريب المهنيين.
تورستين، الذي نقلت تصريحاته على نطاق واسع، يرى أن ألمانيا تصدر ذلك النظام لدول أخرى، ويعتبر أن ذلك يوفر وضعا مريحا ورابحا للجانبين، قاصدا "ألمانيا، والدول المستوردة لتجربتها"، نظام التعليم الألماني هذا يضمن فنيين أكفاء، فما بال الجميع لو كان الفني يحمل جسارة المصريين وبصيرتهم وأحلامهم.