الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

العلم والسياسة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إن حاجة العلم إلى التمويل الحكومى تقتضى خضوعه بطريقة أو بأخرى لمتطلبات الخطط الموضوعة من قِبَل الحكومات، وهذه الخطط لا تتطابق بالضرورة مع ما يمكن أن يؤمن به الباحث من مبادئ مهنته وأصولها، وخصوصًا إيمانه المفترض بأن قيمة البحث إنما ينبغى أن تنبع من داخل البحث ذاته، وليس من المنفعة التى يمكن أن تنجم عنه. والسؤال الأساسى الذى يجب طرحه ها هنا ليس هو: ما الذى ينبغى أن تكون عليه العلاقة بين السياسة والعلم؟ بل بالأحرى: كيف لهذين النمطين البشريين من الخطاب والسلوك أن يتفاعلا بحيث يؤثر كل منهما فى الآخر؟
إن الوضع الذى يواجهنا هنا يتعدى حدود السؤال عما إذا كان رجل العلم مضطرًا حقًا إلى الاستسلام لـ «كابوس» الالتزام بخدمة أهداف السلطة السياسية وخططها، وعما إذا كان فى مقدور «الضغوط الثقافية والمعنوية» التى تستخدمها السلطة أن تنجح فى «إذلال» رجل العلم و«تحويله إلى آلة عمياء» تنفذ الأوامر التى تصدر إليها دون مناقشة أو تردد، فالواقع أن استغلال السلطة السياسية لنتائج البحث العلمى لم يكن يفترض فى جميع الحالات حدوث ما يولد الانطباع بأن رجل العلم مرغم تمامًا على الخضوع إلى ما تمليه لوائح التعليمات الحكومية الصريحة، بل إن ممارسة العلم البحت لم تتعرض، كما يلاحظ أحد المتخصصين، إلى تغيرات كبيرة من جراء كونها تتم ضمن مؤسسات تابعة للدولة وتتغذى بأموالها. ومع ذلك فإن انخراط الباحث العلمى فى مؤسسات البحث التابعة لإشراف الدولة والقائمة على دعمها، سوف يعنى خضوعه للأهداف التى تجعلها السلطة السياسية هاديًا للعمل العلمي، وفى بعض الأحيان موجهًا لخطواته التنفيذية، وذلك حتى عندما يعتقد ذلك الباحث بأنه قد نذر نفسه من أجل خدمة الحقيقة وحدها. 
ومن الملاحظ أن استغلال السياسة واستخدامها لسلطة العلماء تأخذ أشكالًا متنوعة إذ يقوم بعض السياسيين أحيانًا باستخدام العلماء كواجهة للتستر خلفهم من أجل اتخاذ قرارات غير مسئولة وخاطئة. إذ يمكن لرجل السياسة فى هذه الحالة الادعاء بأن ليس فى مقدوره أن يصنع شيئًا أمام قوة البداهة والضرورة العلميتين، كما يمكن أيضًا الاستعانة بسلطة العلماء من قِبَل رجال السياسة لتوظيف ذلك من أجل التلاعب بتوقيت اختيار أو تطبيق قرار سياسى معين. وما حدث من غزو أمريكا للعراق تحت زعم أنه يمتلك أسلحة نووية استنادًا إلى تقارير استخباراتية قائمة على معلومات علمية، لهو دليل على استغلال السياسة للعلم والعلماء. 
ولو تأملنا العالَم المحيط بنا لوجدنا أن الظروف الواقعية ذاتها، فى هذا العالَم، تحتم وجود تداخل وثيق بين العلم والسياسة، فلم يعد فى استطاعة العالِم أن يمضى فى حياته العلمية مستقلًا، ويبحث المشاكل التى تهمه أو التى يريد كشفها، بل إنه أصبح، مرتبطًا على الدوام بمؤسسات أكبر منه، هى التى تقدم إليه الإمكانات، وتزوده بالأدوات المعقدة باهظة الثمن التى أصبحت شرطًا أساسيًا للبحث العلمى فى العصر الحاضر. وينطبق هذا على مختلف أنظمة الحكم القائمة فى العالَم: ففى البلاد الاشتراكية يرتبط البحث العلمى بخطة الدولة، وهى خطة سياسية فى المحل الأول، تحدد للعلماء مجالات البحث المطلوبة، ومقدار التمويل والتسهيلات التى ستقدمها الدولة إليها. وفى البلاد الرأسمالية يشتغل عدد كبير من العلماء فى مؤسسات ذات أهداف تجارية مباشرة. وحتى العاملين فى الجامعات، يقومون بكثير من مشروعاتهم لصالح هذه المؤسسات بل إن المرتبات التى يحصل عليها علماء الجامعات ومعاهد البحث، يأتى جزء كبير منها من مساهمات المؤسسات الصناعية والتجارية فى ميزانيات الجامعات والمعاهد. ومن الطبيعى أن تفرض هذه المؤسسات اهتماماتها الخاصة على مجالات البحث، فضلًا عن أنها لا تود أن يخرج المشتغلون بالعلم عن إطار السياسة العامة التى تحافظ على مصالح هذه المؤسسات. وإذا كان يبدو أن تحكّم «الخطة» التى تضعها الدولة، فى النظام الاشتراكي، هو الأقوى، فإن حقيقة الأمر هى أن المؤسسات ذات الأغراض التجارية تحل محل الدولة فى رسم السياسة المطلوبة للبحث العلمى فى المجتمعات الرأسمالية، لأنها تمول نسبة كبيرة من مشروعات البحث العلمى عن طريق التبرع بأموال طائلة تخصم من الضرائب المستحقة عليها، وبذلك تضمن سيطرتها دون أن تخسر شيئًا، وتضمن فى الوقت نفسه استمرار المبادىء العامة التى تتمشى مع مصالحها.
ولكن، بالرغم من أن الاعتبارات السياسية تتحكم فى العلم الحالى إلى هذا الحد، فإن كثيرًا من المجتمعات تطالب العلماء بألا يتدخلوا فى السياسة، وتضع كثير من المؤسسات والجمعيات العلمية هذا الشرط على كل عالِم مشتغل بها. فالمطلوب من العلم أن يكون طاقة للمعرفة، تعمل جهات أخرى على توجيهها وتحديد الأهداف الاجتماعية التى تسعى لخدمتها. وإذا شاء العالِم أن يعبر عن آرائه السياسية والاجتماعية. فعليه أن يفعل ذلك بوصفه مواطنًا عاديًا، لا بوصفه عالِمًا. وهذا هو الشرط الأساسى لـ«موضوعية» العالِم كما تفهمها مجتمعات كثيرة. وهذا أمر مؤسف. لأن معناه هو أننا نعمل منذ البداية على استبعاد المنهج العلمى من بحث الموضوعات التى تمس حياة الإنسان. أعنى الموضوعات السياسية والاجتماعية والأخلاقية، مع أن هذه الموضوعات قد تكون أكثر احتياجًا لأن تُبحث بالأساليب الفكرية السليمة. فحين نعالج هذه الموضوعات متوخين أن نبحث عن الأدلة النزيهة فى كل حالة، ونبتعد عن الأساليب الإنشائية والخطابية، وحين نفكر فى سياستنا وشئون مجتمعنا تفكيرًا يخلو من الانفعالية ولا يعترف إلا بالحجة المنطقية، وحين نختبر النظريات التى تُنْظَم وفقًا لها حياتنا الاجتماعية عن طريق التطبيق، كما يفعل العالِم فى تجاربه المعملية، وحين نبحث عن العلاقات السببية الحقيقية بين الظواهر الاجتماعية، حين نفعل ذلك كله، فنحن بغير شك نسدى خدمة جليلة إلى قضايا الإنسان المصيرية فى مجتمعاتنا. وفى هذه الحالة يكون العلم قد أثبت وجوده فى المجال السياسى والاجتماعي، مما يبدد تلقائيًا تهريج المشعوذين والآفاقين الذين يتحكمون فى هذا المجال الحاسم بأساليب لا تمت إلى العلم أو التفكير السليم بأية صلة. ولكن المهم فى هذه الحالة هو أن يكون العالِم نزيهًا بحق، وأن تعطى له فرصة التعبير عن نفسه دون ضغط أو تأثير، وهو على أية حال شرط من العسير؛ إن لم يكن من المستحيل تحقيقه فى معظم مجتمعاتنا العربية والإسلامية!!.. لكن الواجب يقتضى من كل مثقف حقيقى أن يلقى حجرًا فى البركة الآسنة دون يأس أو قنوط.