اعتاد الأزهر، على مدى تاريخه الطويل، أن يعلن رؤاه ضد مخالفيه، ورصد الباحث محمود حسنى رضوان مجموعة من المواقف على مدى تاريخه:
(١) بعد سقوط الخلافة العثمانية عام ١٩٢٤، سال لعاب الملك فؤاد للمنصب الكبير (خليفة المسلمين).. وأيده فى ذلك الإنجليز.. وكتب عباس العقاد يقول إنه عندما تصبح مصر هى دولة الخلافة (وهى أصلًا مجرد مستعمرة بريطانية)، فإن هذا سوف يمنح بريطانيا نفوذًا أدبيًا كبيرًا على العالم الإسلامى كله.. وأما الأزهر فقد أراد أن يكون رأس الحربة فى تنفيذ هذا المخطط.. وبدأ الأزهر أولى خطواته فى تحقيق حلم الملك فؤاد، بالدعوة لعقد مؤتمر دينى، تحت عنوان «المؤتمر الإسلامى العام للخلافة»، وذلك لمبايعة الملك فؤاد، خليفة للمسلمين.. وردًا على ذلك، أصدر الشيخ على عبدالرازق (وهو من كبار مشايخ الأزهر) كتابه الشهير «الإسلام وأصول الحكم»، الذى يعتبر علامة بارزة فى تاريخ الفكر الإسلامى، والذى أثبت فيه أن الخلافة ليست من الفكر الإسلامى فى شىء، وأنه لم يرد لها ذكر فى القرآن أو فى السنة، وأن الإسلام قد ترك للمسلمين حرية اختيار شكل الحكم الذى يناسب ظروفهم.. وكان هذا الكتاب (سواء من حيث التوقيت أو المضمون) بمثابة ضربة هائلة أدت إلى تبديد حلم الأزهر والملك فؤاد والإنجليز.. وهنا جاء رد الأزهر سريعًا وعنيفًا.. ففى ١٢ أغسطس، عقدت هيئة كبار العلماء (وكانت تضم ٢٤ شيخًا) محاكمة عاجلة للشيخ على عبدالرازق.. وكان على رأس «المحكمة» شيخ الأزهر، الشيخ محمد أبوالفضل الجيزاوى.. وتم توجيه ٧ تهم للشيخ على عبدالرازق.. وكتب عباس العقاد، واصفا هذه المحاكمة، بأنها أشبه بمحاكمات التفتيش!! وكان نص الحكم هو التالى: «إخراج الشيخ على عبدالرازق من زمرة العلماء، ومحو اسمه من سجلات الأزهر، وطرده من كل وظائفه، وقطع مرتباته فى أى جهة كانت، وعدم أهليته للقيام بأى وظيفة، دينية أو غير دينية»!! وبمجرد صدور هذا الحكم، أصدر الملك فؤاد تعليماته إلى وزير الحقانية، عبدالعزيز فهمى، لتنفيذ الحكم فورًا.. وأصيب الشيخ على عبدالرازق بإحباط شديد، وتقوقع على نفسه، وعاش فى عزلة إلى أن مات!!
(٢) فى عام ١٩٢٦ نشر عميد الأدب العربى د.طه حسين، بحثه الشهير «فى الشعر الجاهلى»، وسلك فيه منهج ديكارت.. وكان طه حسين نموذجًا للمثقف الثورى، الذى سبق عصره.. وهاج الأزهر، واندلعت مظاهرات طلابه ضد طه حسين، وكتب الشيخ عبدربه مفتاح (رئيس قسم الوعظ والإرشاد بالأزهر) مقالا فى مجلة الكواكب عام ١٩٢٦ كفر فيه طه حسين! وتقدم شيخ الأزهر أبوالفضل الجيزاوى ببلاغ ضد طه حسين اتهمه بالإلحاد والزندقة والتعدى على الدين!! ولكن النيابة حفظت التحقيق.. وغادر طه حسين الأزهر مطرودًا ومغضوبًا عليه، وانتقل إلى الجامعة المصرية.. وهناك تقدم برسالة بعنوان «تجديد ذكرى أبى العلاء»، لنيل درجة الدكتوراه (وكانت هذه أول رسالة دكتوراه فى تاريخ الجامعة المصرية).. وتقدم أزهريون ببلاغات، يتهمونه بالإلحاد، وتدخل سعد زغلول لدى النائب العام لإنقاذه.. وفى عام ١٩٣٢ أصدر طه حسين كتابه إلهام «فى الأدب الجاهلي»، فثار الأزهر مرة أخرى، وضغط بشدة على الحكومة وعلى البرلمان، ونجح الأزهر هذه المرة فى إجبار مجلس الوزراء على اتخاذ قرار بفصل طه حسين من الجامعة!!.
(٣). يعتبر الفقيه عبدالمتعال الصعيدي، واحد من أفضل المجددين فى الإسلام.. وهو عالم لغوى من أكبر علماء الأزهر.. وله مجموعة كبيرة من الكتب وكان يميل لفكر المعتزلة، وآمن بأن إلغاء دور العقل هو السبب فى تخلف المسلمين، وطالب بإعمال العقل.. وبعد صدور كتابه «تاريخ الإصلاح فى الأزهر»، أقام الأزهر الدنيا على الشيخ عبدالمتعال الصعيدى، وتمت محاكمته، وتم فصله من كلية اللغة العربية، وأوقف الأزهر صرف مرتبه!!
(٤). خالد محمد خالد، واحد من أهم المفكرين المصريين فى النصف الثانى من القرن العشرين.. كان جده من علماء الأزهر.. وأما هو فقد تعلم بالأزهر، وعمل مدرسا به.. وله عدد كبير من الكتب المهمة.. وعندما أصدر كتابه «من هنا نبدأ» ثارت ثائرة الأزهر.. وفى هذا الكتاب، طالب خالد محمد خالد، بالعدالة الاجتماعية، وإنصاف الفلاحين المعدمين، وإعادة توزيع الملكية.. ولكن الأزهر إنحاز إلى كبار الملاك، وصادر الكتاب.. وأصدرت لجنة الفتوى بالأزهر بيانا فى ١ مايو ١٩٥٠ اتهمت فيه خالد محمد خالد بالتعدى على الدين الإسلامى!!. ولكن فى ٢٧ مايو أصدرت محكمة القاهرة الابتدائية حكمًا تاريخيًا، بإلغاء الأمر بمصادرة كتاب «من هنا نبدأ».... وما زلنا نحلم «من أين نبدأ».
(يتبع)