رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

إعادة التأهيل الأخلاقية للإنسان

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فذلكة
حينما سئل الفيلسوف الفرنسى إدغار موران حول مخرجات حواره الهام مع المفكر الإسلامى «طارق رمصان» (وهو الصادر فى كتاب «خطر الأفكار») أجاب بأنه تفاجأ تماما بالكم الكبير من الأفكار التى كانا متفقين حولها، هو المفكر الغنوصى ذو الأصول يهودي، ومحاوره الإسلامى الدينى المحسوب – طوعا أو كرها- على التيار الإخواني. ومن هنا جاء السؤال المحرج: هل يمكن للعالمين «الغربي» و«الشرقي» أن يكونا متفقين وهما لا يشعران بذلك؟
والحقيقة هى أن لإدغار موران وعيا متميزا بخصوصيات الزمن الذى نحياه ؛ ولهذا نجد دائما صدى خاصا ونبرة متميزة لديه كتلك الشهيرة التى يحدد فيها نمطا مميزا لما يسميه الضرورة الثورية للأزمنة القلقة الحديثة؛ إذ يقر فى المجلد الرابع من عمله الرئيس «المنهج» بأننا «بحاجة إلى أن نفهم أن ثورة اليوم لا تتمركز كثيرا على أساس الأفكار الجيدة أو المناقضة للراهن أو تلك الحقيقية فى صراع الحياة والموت مع الأفكار السيئة والخاطئة، ولكن فى مجال تعقيد تنظيم الأفكار.
تنويعات
إذا استبعدنا الثنائية العتيقة للصواب والخطأ اللذين تعودنا عليهما كطرفين فاعلين فى الصراع المدعو «جدلية» كمواجهة حتمية بين قوتين متناقضتين تهدف إحداهما للهيمنة على الأخرى، نجد أنفسنا بالضرورة فى مقترح إدغار موران الداعى إلى التفكير من زاوية الحوارية كمقاربة مختلفة للصراع الفكرى والتاريخى والأخلاقى طبعا.
ويحدد موران مفهوم الحوار بأنه أداة تسمح بربط المواضيع العدائية، والتى يبدو فى حدودها ملمح التناقض. وهذا يعنى أن منطقتين اثنتين تتقابلان، لتتحد المبادئ دون ازدواجية الازدواجية فى هذه الوحدة: وبالتالى الفكرة. أما «الأحادية» الوحيدة المفيدة بالنسبة للإنسان فهى أحادية الوجود. الغلاف المعنوى الذى يغلف الناس والكون فيبرر الحوار كسبيل للتكامل.
يقر إدغار موران بأن تاريخ الدياليكتيك مرتبط أصلا بتاريخ العداوة والصراعات الدامية التى هيمنت على الأخلاق البشرية كصيغة وحيدة ممكنة للتقابل بين اتجاهين غير متفقين. ونطرح معه هنا السؤال الجوهرى الذى انبنت عليه «منهجيته» الشهيرة: هل يمكن للصراع أن يحيل على خاتمة سعيدة؟.. أفلا يمكن للاختلاف ألا يحيل على العداوة؟ وأن يحيل على إمكانية ولو نظرية للعيش المشترك؟
لأجل الإجابة على ذلك يعود بنا إدغار موران إلى مرحلة هيراقليط الذى كان يتمثل التعدد فى الجوهر الواحد.
يقول فى بعض محاوراته: «يجب إذن أن نسعى فى التفكير المتناقض من هيراكليتس، الذى يتصور تعددا فى واحد. وحدة الكائن، نظام معقد، فإن التنظيم النشط لا يفهمه منطق الهوية السائد والغارق فى الأحادية المنغلقة على الذات. ففى غطار الواحد ليس هناك التنوع فقط، بل توجد حتى النسبية وعدم اليقين، والغموض، والازدواجية، والانقسامات، والعداء. يجب أن نفهم أن واحدا هو فى الواقع بالنسبة إلى الآخر. لا يمكن تعريفها إلا فى جوهرها. إنه يحتاج إلى الخروج من بيئته ومراقبه. واحدة معقدة جدا. إنه هوية معقدة. هو، مثل كل ما ينتج الفردية، والاستقلالية، والهوية،الاستمرارية فى أشكالها، وفى إطار أحاديات متعددة. لقد كتبت فى كتابى «التفكير أوروبا»، أننا نعيش فى الوهم بأن الهوية واحدة وغير قابلة للتجزئة، فى حين أنه لا يوجد شيء عدا وحدة متعددة الوحدات (وحدة مركبة)، والواقع هو أن هويتنا هى جمهرة من الهويات المتآلفة، بمعنى أننا نعيش الهوية العائلية».
يمكننا أن نتساءل فلسفيا: كيف تنشأ أخطاء التربية والتكوين هذه؟ من منطلق أن المشروع الأخلاقى لإدغار موران كما عرفناه من قبل هو مشروع يعتمد على مخطط تربوي، مخطط يتكئ أساسا على تكوين إنسان يأتى فى الغد حسب مخططات ونماذج نفسية وثقافية نعمل اليوم على تشكيلها، وهنا يبزغ قلقان فى الواقع لا قلق واحد:
كيف تنشأ أخطاء التشكيل البشرى هذه؟
هل يمكن التفكير فى إنسان بديل مستعد لفتح صفحة تاريخية (وبالتالى أخلاقية) جديدة وجديرة بالتخطيط المستقبلى لإنقاذ إنسانية يبدو أنها تعانى مشكلا كبيرا فى التواصل البشرى فى عصر يسمى للمفارقة بعصر التواصل؟
يدعونا إدغار موران إلى إعادة جدولة المفاهيم فيقول بأن التواصل الإنسانى لكى يحقق «أهدافه وغاياته ينبغى أن يكون هناك فهم صحيح للإنسان فى حد ذاته، فى أبعاده ومكوناته. إن فهم الإنسان يتطلب الوعى بالطابع المركب لهذا الإنسان، فالأسلوب المعرفى القائم على الفصل والاختزال قد وقف حائلا دون فهم التعقيد الإنساني، حيث إنها قد تحققت تجزئة الإنسان بمختلف العلوم، بالظاهرة البشرية كّل من زاوية خاصة ومحددة، فتـم التجزيء إلى أجزاء، كل جزء معزول عن الآخر فى العلوم الإنسانية، بينما غاب الإنسان فى علوم العالم».
خلاصة القول
كل هذا يقف على خلفية أن الناس وهم يتقاطعون مع النصوص أو يخوضون غمارها كتجربة معيشة يقومون بإنتاج الدلالة وتوليد المعانى التى هى معانى العالم الكلية الشاملة الكونية التى تبدو دائما مطلقة – وإن كانت غير مطردة تماما- وتكون حصيلة هذه السيرورة هى ما نسميه بطريقة مجازية «الثقافة»؛ هذا المفهوم النقى النبيل الذى يراه ستيوارت هال نمطا من ممارسة الهيمنة من قِبل قوى وصية تهدف إلى خلق شعور بالدعة والطمأنينة لدى الأتباع (وغالبا ما نسميهم المواطنين الصالحين) تجاه الهيمنة المسلطة عليهم، الشيء الذى من شأنه ضمان تبعيتهم.
نتيجة لذلك وبناء على ما سبق، يكون على الإنسان فى رؤية هذا الحقل أن يتأمل نفسه من خلال سؤالين مركزيين: أحدهما هو: ما المسار الثقافى والعقلى والسياسى الذى قاد حياتنا إلى أن تكون على الشكل الذى هى عليه؟ والسؤال الثانى هو: أفلا نكون نحن من خلال عمل اللغة على برمجة أفكارنا موضوعا للثقافة؟ فنكون أدوات فى يد لا نعرفها لتحقيق إرادة ثقافية (أى سياسية وأخلاقية) لا نستوضحها؟
حينما يتم فرز هذه الخيوط جميعها يمكننا أن نفهم أين حدث خلل الفهم بين اليهودى المتشكك والمسلم الحركي.