الجمعة 20 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

سلام عليكِ يا هنية أينما كنتِ

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تعودت في طفولتي أنا وشقيقتي داليا الذهاب إلى بيت جدتي في حضن إحدى قرى عروس الصعيد بالمنيا، كنت أحب تناول الحليب فى الصباح تكسوه طبقة القشدة اللذيذة حيث يأتي به الجيران طازجا فجر كل يوم للترحيب ببنات «مصر» الذين حلوا ضيوفا على جدتهم فى إجازة نصف العام، ناهيك عن الأطباق الشهية المملوءة بالمحمر والمشمر، إضافة للفطير المشلتت الذى يأتي مع أطباق العسل الأسود والجبنة القديمة.
ولائم ضخمة وكبيرة تأتى من كل حدب وصوب للترحيب بوجودنا فى القرية أنا وأختي داليا.
وفى كل مرة كنا نذهب فيها إلى القرية كان الروتين اليومى لها واضحا وضوح الشمس حيث يستيقظ الجميع فى الخامسة فجرا لإعداد الإفطار ثم نتناوله جميعا فى السادسة بعدها يذهب الشباب والرجال إلى «الغيط» لممارسة الأعمال الشاقة فى حصاد المحاصيل التى أتى موعد حصادها وتمهيد الأرض لغرس محاصيل أخرى للموسم القادم. ثم يأتون قبيل المغرب من الحقول ليتناولوا عشاءهم، ويستعدوا لصلاة العشاء، ثم يغطوا فى نوم عميق استعدادا ليوم جديد يبدأ عند أذان الفجر.
كان هذا الروتين لا يناسبنا بالطبع فنسهر على المصطبة أمام منزل جدتى أنا وداليا، ويوما بعد يوم يجذب تسامرنا فتيات القرية فيأتين لمشاركتنا، حيث يجلسن معنا بالساعات نلعب ونحكى ونتبادل أطراف الحديث إلى أن جاء يوم عيد ميلاد أختى داليا فصنعنا لها كعكة عيد ميلادها بالمكونات المنزلية ودعونا فتيات القرية التى ارتسمت على وجوههن علامات الاستغراب متسائلين ما هو عيد الميلاد؟ ولماذا نحتفل به؟ وماذا يفعلون فى ذلك الحفل؟ وبعد يومين من المناسبة جاءت إحدى الفتيات وتدعى «هنية» إلى بيت جدتى لتدعونا إلى حفل عيد ميلادها، قالت لنا والفرحة تملأ وجهها: «أنا قولت أعمل عيد ميلاد زيكم ونجمع البنات الليلة عندنا فى البيت ونفرح، هستناكم».
وكم سعدت أنا وشقيقتى للغاية بهذا الخبر فقد بدأ تأثيرنا واضحا على «هنية» وذهبنا فى المساء لعيد الميلاد فوجدنا حفلة ريفية بسيطة، الفتيات يجلسن على الكليم المفروش على الأرض يصفقن بكل حماسة وهنية ترقص فى وسط الدائرة التى صنعتها جلستهن، بدت هنية سعيدة للغاية وهى ترقص وتتمايل فى يوم ميلادها فها هى تمارس أبسط حقوقها التى لم تكن تعرفها من قبل، وراحت فى نشوة تلقى ببعض الحلوى والفشار فى حجر الفتيات مباشرة وهن جالسات على الأرض وتوزع عليهن فى سرور بادٍ، عصير الشربات الأحمر بكميات وفيرة. السعادة كانت تبدو ظاهرة على وجوه الجميع، فى هذا اليوم أحضرنا أنا وداليا هدية لهنية وفرحت بها أيما فرح وظلت ممسكة بها فى يدها حتى انتهى الحفل عدنا إلى بيت جدتى وفى اليوم التالى وجدنا غضبا شديدا من أهالى القرية لأن هنية أقامت حفلة لعيد ميلادها بالأمس بالرغم من سعادتها الشخصية وسعادة كل الفتيات اللاتى حضرن للحفل، ولقبوها منذ ذلك اليوم بهنية بتاعة عيد الميلاد نسبة إلى الحفل الذى أقامته احتفالا بيوم مولدها، حيث لم يعرف أهل القرية من البسطاء سوى الاحتفال بمولد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وعدد من أولياء الله الصالحين المنتشرة مقاماتهم فى الصعيد بأكمله.
لقد خرجت هنية بفعلتها على تقاليد وقوانين القرية التى كتبت على هؤلاء الفتيات الاجتماع فقط فى المآتم والأحزان للطم الوجوه والحسرة على ما فات وارتداء الأسود.
كن يفعلن ذلك لا لشىء إلا لأن تلك القوانين فرضت عليهن ومن يفعل عكسها أو تكون لديه الجرأة لفعل عكسها يعد خارجا على قوانينهم ولا يشبه سكان القرية فى شىء، فيصبح كالمنبوذ.
ومرت الأيام وتقدمت فى دراستى وعملى وفى وسط انشغالاتى لم أذهب إلى القرية منذ وقت بعيد وانقطعت أخبار «هنية» وصديقاتها عنى وعندما كنت أدرس فى باريس وجاءت نهاية الفصل الدراسي، فاجآتنى صديقتى الأمريكية بزجاجة نبيذ معتقة منذ أكثر من خمس عشرة سنة مضت ومن ذلك النوع الفاخر للغاية كهدية فى آخر العام الدراسي، نظرا لأنها أقامت فى شقتنا لبعض الوقت، ولكنها تعجبت كثيرا عندما أجبتها بأننى لا أستطيع قبول هديتها، وعندما سألتنى عن السبب قلت لها لأننى لا أشرب مطلقا وليس لدينا فى أسرتى أحد يشرب، وعندما أصرت على معرفة السبب قلت لها لأننى مسلمة وفى ديننا لا نشرب الخمر.
احترمت صديقتى وجهة نظرى ولكنها عرضت على أن آخذها على سبيل التذكار ولكننى مرة أخرى رفضت وكنت سعيدة يومها بأننى فعلت ما أنا مقتنعة به وما يتوافق مع مبادئى على الرغم من كون فعلى هذا قد لا يناسب الحياة فى باريس ولا يناسب طبيعة المكان، ومن الممكن أن يحكم على عدد من أصدقائى هناك بأننى متخلفة أو رجعية أو يلقبوننى بأى لقب لأننى أخالف ما درجت عليه الحياة هناك فى الغرب، كذلك كما حكم أهل القرية على هنية ولقبوها بفتاة عيد الميلاد.
وعندما كبرت وارتبطت وجدت نفسى بعد فترة من الوقت غير سعيدة، ووجدت الشاب الذى تمت خطبتى له قد يناسب فتيات كثيرات غيري، وربما أفضل مني، لكنه لا يناسبني، فقررت الرحيل فى هدوء ودونما ضجة وبدون الاستماع حتى إلى كلمات جارتنا المتزوجة التى صبرت على خيانة زوجها سنوات دون طلب الطلاق؛ لأنها لا تستطيع اتخاذ هذا القرار خوفا من نظرة المجتمع، لم أبال بكلمات صديقاتى اللاتى أصررن على أن أمنحه أو أمنح نفسى فرصة أخرى لأن العمر يتقدم بنا والزواج والإنجاب يظلان فكرة مقدسة ويجب أن أتمها قبل عامى الثلاثين.
لكننى كنت، دائما، أردد داخلى أننى لست أقل من «هنية» تلك الفتاة الريفية البسيطة التى تمردت على أهل القرية جميعهم وأقامت حفل عيد ميلادها وكانت سعيدة للغاية برغم كل الأحكام الباطلة التى أطلقها عليها أهل القرية فقط لأنهم لم يملكوا الجرأة لكى يحذوا حذوها أو يقدموا على اتخاذ خطوتها الجريئة وإسعاد أنفسهم، مخافة ملامة الآخرين ونظراتهم اللئيمة.
ولكن فى النهاية، ماذا لو كسبت العالم كله وخسرت نفسك!.
فـ «سلامٌ» عليكِ يا «هنية» أينما كنتِ.
وسلامٌ علي.