لم تكن أحوال إيطاليا فى زمن الحرب العالمية الثانية تسمح لمخرجى السينما بالاستعانة بالنجوم والنجمات الذين تتزاحم الجماهير من أجلهم أمام دور العرض. كانت الأحوال مضطربة للغاية، والفقر يعشش فى كل بيت ويحوم فى كل شارع، والعاطلون عن العمل فى ازدياد مريع، والبؤس يلتهم المساحات المتبقية للرومانسية والنبالة، وتعجز الأصابع عن إدارة المؤشرات نحو الأغنيات السعيدة.
أمام هذه الأجواء السوداء أدار صناع السينما ظهورهم للاستديوهات التى شيدها الدكتاتور الفاشى «موسوليني»، واختاروا النزول إلى الشارع لتلتقط عدساتهم وجوه الناس الحقيقية، بلا رتوش أو مكياج مؤسسين بذلك ما عُرف بـ «حركة الواقعية الجديدة». برزت أسماء كثيرة وكبيرة ضمن هذه الحركة من بينها «فيتوريو دى سيكا»، الذى رأى أن من واجبه مواجهة ما فعلته هذه السلطة وتوثيق ما خلفته الحرب من دمار فى البنيان والإنسان، وذلك من خلال فيلمه «سارق الدراجة» الذى يُعد دُرة فى تاج السينما العالمية.
تظهر روما فى فيلم «دى سكا» مدينة للعاطلين والجائعين والمشردين واللصوص. وأمام أنياب الفقر تتخلى شخصيات الفيلم عن قيمها وإنسانيتها ويسود الجشع والطمع والأنانية والخرافات والشعوذة لمواجهة حاضر غامض ومستقبل غير مضمون.
يصور الفيلم مظاهر الفقر واليأس التى تعانى منها الناس فى روما؛ حيث يختار «دى سيكا» إحدى الأسر الفقيرة لتدور حولها الأحداث.. رب الأسرة يُدعى «أنطونيو ريتشي»، وهو عاطل عن العمل تلتقطه الكاميرا فى أول مشهد بالفيلم بين مجموعة من المتعطلين الذين تجمعوا بالعشرات أمام أحد مكاتب التوظيف بحثا عن فرصة عمل. الكاميرا تلاحظ «أنطونيو» منعزلا عن أقرانه فى إشارة ليأسه عن إيجاد عمل ينقذ به أسرته من الجوع والتشرد، لكن يتهلل وجهه عندما يسمع مسئول مكتب التوظيف مناديا على اسمه. وعندما يصعد السلم نحو المسئول يخبره بأنه قد تم اختياره عاملا للصق الإعلانات على الحوائط بشرط أن يكون لديه دراجة.
«أنطونيو» ليس لديه دراجة فى الوقت الحالى؛ فقد قام برهنها منذ أيام قليلة ليتمكن من إطعام أسرته، لكنه لا يستطيع أن يخبر المسئول بهذا الأمر خوفا من ضياع الوظيفة التى انتظرها عامين كاملين، فيحاول إقناع الرجل بأنه يستطيع أن يؤدى مهام عمله مترجلا حتى ينتهى من إصلاح دراجته، وهو ما رفضه المسئول مهددا بسحب العرض حال عدم توافر الدراجة.
يتسلم «أنطونيو» خطاب التوظيف ويتوجه إلى بيته بائسا وحزينا وهو لا يعرف ما الذى يتعين عليه فعله ليسدد الرهن ويستعيد دراجته اللازمة للوظيفة. يقابل زوجته «ماريا» فى الطريق، ويروى لها ما حدث فتعرض عليه بيع مفارش الأسرة التى ينامون عليها، وبالمقابل يسدد الرهن ويستعيد دراجته ليتم توظيفه.
يوافق «أنطونيو» ويستعيد دراجته، وفى الصباح ينظفها ابنه الصغير «برونو» الذى لا يتجاوز العاشرة، ويرتديان ملابس العمل ويستقلان الدراجة متوجهين إلى عملهما.. الأب للصق الإعلانات، والابن فى محطة للوقود.
ولأن الحظ دائما لا يحالف المقهورين والفقراء، يقوم أحد الفتيان بسرقة الدراجة ساعة يتدرج «أنطونيو» سلمه الخشبى المسند إلى الحائط للصق أحد الإعلانات، وبمجرد أن لمح السارق تحدر السلم وطار وراءه كالريح ولكن بلا جدوى؛ حيث اختفى السارق ومعه حلم «أنطونيو» بحياة كريمة بلا عوز أو جوع.
يبحث البطل البائس وابنه «برونو» طوال أحداث الفيلم عن السارق ليستعيدا حلمهما، وتكشف معهما كاميرا «دى سيكا» ملامح الفقر والبؤس واليأس فى شوارع المدينة المُحطم أهلها من الحزن والخوف من المجهول.
أثناء رحلة بحث «أنطونيو» عن دراجته يعثر على متشرد عجوز كان قد لمحه يتحدث إلى السارق قبل أن يختفى بالدراجة، وعندما سأله: أين يجد هذا الفتى؟ ينكر العجوز المُشرد معرفته به ويفر منه دالفًا إلى إحدى الكنائس التى ترعى المشردين والمحتاجين. يدخل «أنطونيو» وراءه متجاهلا القداس، ويصرخ فى الرجل مطالبًا إياه بإخباره أين يجد هذا السارق.
يصل «أنطونيو» إلى منزل السارق، ويطالبه بإعادة الدراجة لكنه ينكر الأمر ويتجمع المارة والجيران محاولين طرد «أنطونيو» من المكان؛ فيقوم الابن الصغير «برونو» بإحضار الشرطى الذى وجد السارق ممدًا على الأرض فى نوبة صرع عنيفة. يتجاهل الشرطى الفتى الملقى على الأرض والجمع الذى حوله فيخبره «أنطونيو» بالقصة فيطلب تفتيش منزل السارق.. وهنا ترينا الكاميرا منزلًا فقيرًا عبارة عن غرفة صغيرة ووضيعة ليس بداخلها أحد سوى امرأة عجوز تبدو عليها كل مظاهر الفقر والجوع.. هى والدة سارق الدراجة التى تطلب من الشرطى تفتيش كل شبر بالغرفة وبكل ثقة تنفى عن ابنها تهمة السرقة.
لا يعثر الشرطى على دليل ضد السارق؛ فينصرف وخلفه «أنطونيو» وابنه «برونو» تتبعهم لعنات وشتائم السارق وجيرانه وكل من تجمعوا فى الشارع وعلموا بالقصة. على بعد أمتار قليلة من منزل السارق يرى «أنطونيو» دراجات كثيرة مسندة إلى أحد الحوائط، وعلى مقربة منها يلمح دراجة أمام إحدى البنايات؛ فيقرر القيام بسرقتها لينقذ وظيفته قبل أن تضيع منه، لكنه لا يريد أن يشرع فى الأمر أمام ابنه.. لا يريد أن يعرف «برونو» أن والده لصًا، فيطلب منه أن يستقل الترام ويعود إلى المنزل.
ينجح «دى سيكا» فى كسب تعاطف المشاهد مع هذا الأب المسكين، بل وتأييده لما يعتزم القيام به من سرقة دراجة لا تخصه. لكن الحظ الذى خالفه منذ المشهد الأول للفيلم يصر على مخالفته حتى هذه اللحظة فيتمكن مالك الدراجة والمارة من الإمساك بـه. وفى اللحظة التى حضر فيها الشرطى ظهر الابن الصغير «برونو»، الذى لم يتمكن من ركوب الترام بسبب الزحام فرأى والده فى قبضة الشرطة والناس تنعته باللص فبكى حزنا على والده المسكين، وعندما شاهده مالك الدراجة أشفق عليه وأخبر الشرطى أنه قد عفا عنه وطلب منه أن يخلى سبيله.
ينتهى الفيلم دون أن يستعيد «أنطونيو» دراجته، ويترك لنا «دى سيكا» النهاية مفتوحة، وعلى الرغم من قتامة الفيلم ومشاهده المغرقة فى البؤس والفقر المدقع، لكنه يُعد واحدًا من أعظم الأفلام فى تاريخ السينما فى العالم، إذ تقول عنه «مارلين فيب» فى كتابها (أفلام مشاهدة بدقة.. مدخل إلى تقنية السرد السينمائي) الصادر عن المركز القومى للترجمة، فى عام ٢٠١٣، بترجمة محمد هاشم عبدالسلام: «تتفاقم البطالة، والمقدار الزهيد من كوبونات الإعانة المخصصة من جانب الحكومة بالكاد، يمكنه أن يعينهم على البقاء على قيد الحياة.. يوحى دى سيكا بما هو أكثر مدعاة للخطر من البطالة والجوع بإطلاقه على الدراجة المفقودة الاسم التجارى (فيديز) الذى يعنى فى الإيطالية (الإيمان). فالبطالة لا تهدد (أنطونيو ريتشي) بالجوع المادى فحسب، وإنما بيأس روحى فظيع. هذا اليأس جرى التلميح إليه بعبارات ذات صبغة انتحارية تلفظ بها (أنطونيو ريتشي) إلى زوجته عندما خشى من أنه لن يتمكن من الحصول على الوظيفة. لذا؛ فإن فقدان الدراجة يفوق بكثير ضياع السند المادي. فهو يعنى أيضًا فقدان (ريتشي) لافتخاره بنفسه وضياع الأمل فى حياة أفضل، وأخيرًا انتفاء الدافع للبقاء على قيد الحياة».
يقدم «دى سيكا» صورة حية ليست لروما وحسب، وإنما لكل المدن المضطربة التى تحكمها سلطات غبية وغير عادلة. كما ينجح من خلال الفيلم فى إخلاء مسئولية «أنطونيو» تجاه ما وصل إليه من فقر ويأس ومحاولته السرقة، كما أخلى مسئولية سارق الدراجة البائس والمصاب بالصرع والغارق فى الفقر والجوع، كما لم يوجه أيضا أى إدانة للذين لجأوا إلى المشعوذين والعرافين لمعرفة الطالع وسط ضبابية الحاضر والمستقبل معا، وألقى بالمسئولية كاملة على عاتق نظام موسولينى، الذى وقف بقوة وغرور وراء سقوط كل شيء بدم بارد ووجه متجهم لا تبين منه سوى ملامح الغباء والعنت.