السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

«صنايعية الحضارة».. ومضات في سماء كابية!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
1
كان يخرج صباحا ليجوب ضفاف النهر، ذلك النهر الخالد الذي وهب به الإله الحياة للموجودات على أرضه، يلملم المصري القديم قصب البردي ويأكل ثماره ليسد جوع الفجر، يجنيه ويفرده ليجف ويختار منتصفه قبل أن يقطعه طوليا ليصنع منه صفحات الكتابة، التي احتكر «مذكراتها» حتى القرن التاسع عشر.
كان يصنع من نبتة واحدة – البردي - القوارب الصغيرة الخفيفة ليستخدمها في عبور نهر النيل، ويصنع حباله، والحصر، والسلاسل، والأكواخ الصغيرة، والنعال.. استخدم الجذور للوقود وصناعة أدوات المطبخ، بينما استخدم رؤوس النبتة في تزيين المعابد، ليضرب المثل لمن يأتي بعده في فن استخدام الحرفة، وليرسخ بعدها لحقيقة أن «المصري صنايعي العالم»، الذي أمّن الخبز ووفر الأمان الاقتصادي والاجتماعي، قبل أن يدرك من سواه حقيقة الحضارة.
2
«الأسطى أمينة»، تلملم العدة لتضعها في حيزها الخاص، بأصابع دقيقة تشارك أبيها تصليح السخان المعطل، الذي جلبه أحدهم إلى ورشة الوالد ثقة فيها وأبيها، بأنامل منمنمة تلصق أطراف الدائرة وتمسح على سطح الوصلات الكهربائية، قبل أن تنهي عملها بـ«كوباية شاي»، تصنعها على عجل لها وللحاج، لتكافئ بها نفسها على الإنجاز الصغير.
هي فتاة شرقاوية قوية، نموذج للصنايعي الأنثى، التي تستغل، دون خجل أو تحفظ أو حسابات لنظرة المجتمع أو الناس، ورشة والدها لتصنع عالمها المثمر بين قطع «العدة» والشحم والمفكات وأدوات الكهرباء والمفاتيح بأنواعها بعد عودتها من المعهد الصناعي بالزقازيق، هي في الثامنة عشر من عمرها، حصلت على دبلوم المدارس الصناعية بتفوق من مدرسة الشهيد أحمد محمود العنانى بدماص مركز ميت غمر قسم التبريد والتكييف، ولم تجد بدا من استخدام ذلك، لأنه كما تقول «الرزق صنعة».
3
بين ألمانيا والسويد صنع مجدا لم يكن يتخيله، العزيمة باقية و«الصنعة موجودة»، وإرادة الله غالبة.. محمد حسن لم يكن يعلم أن كفه الشاحب الأسمر، عندما كانت السفينة التي تقله من الإسكندرية تضرب خباب البحر، سيصنع بـ«فن الصنعة»، في ورشة خراطة ما عجز عنه قرنائه، في أعظم بلاد العالم صناعيا، وأمام الأسطى الألماني «هانز بياليجي» نفسه.
«النمر الأسمر»، لم ينس ما واجهه من قحط وفاقة، حتى الإسقاط على ظروفه الحياتية يجوز أن يسوقه المدلل على ما تواجهه صناعة التعليم الفني والحرفي في مصر.. أزمة اقتصادية بسيطة وفردية لو خرج منها التعليم الفني سيخرج إلى آفاق أخرى، حياة جديدة كالتي خرج منها النمر إلى آفاق المدنية والتحضر بعد فاقة وإقلال.
التدريب المهني.. وفقاعة الـBullshit Jobs
أمام تلك النماذج الباهرة، يعلو مقال واحد كتبه عالم الأنثروبولوجي الأمريكي ديفيد جرابر، الذي يوصف بأنه «أفضل مُنظّر أنثروبولوجي في جيله في أي مكان في العالم»، تحت عنوان On the Phenomenon of Bullshit Jobs، في مجلة «Strike»، ترجم لـ 12 لغة، تحدث فيه عن انهيار المنظومة الخاصة بالتعليم الفني والمهني، الذي تسبب في خلق فقاعة من الوظائف، التي لا قيمة لها بالمجتمع الأمريكي.
رأسمالية واشنطن، لم تتحمل مقال جرابر، لترد صحيفة الإيكونوميست على المقال وتفند ما جاء فيه، ما لفت الأنظار أكثر إلى أزمة التجربة الساعية لترسيخ ثقافة التعليم الفني والتدريب المهني وأهميته لاقتصاديات الدول، لكن المقال كان صادما بحق وداس على جراح الرأسماليين، أمام أهمية التعليم الفني والتقني.
في 2010، وقعت قصة طريفة أخرى تدلل على صحة نظرية جرابر، عندما قررت الحكومة الإسبانية تكريم أحد موظفيها بمحطة تنقية المياه، بعد أن استكمل 20 عاما كاملة في وظيفته، إلا أن لجنة التكريم لم تجده، اختفى تماما، وبالسؤال عنه، هو الذي يتقاضى راتبه بانتظام طوال أعوام عمله العشرين، اكتشف السائلون أن الموظف - الكفء في تقييمهم الأولي - تغيب عن عمله 6 سنوات كاملة، دون أن يتأثر سير العمل بمحطة المياه بغيابه، أو يلاحظ أحد تغيبه، وهو ما أثار التساؤل بشأن «الأعمال عديمة الجدوى»، التي تفاقمت حدتها بعد أن ترهلت يد المنظومة الإسبانية عن الإمساك بسلاح التدريب المهني.
النماذج المصرية رغم اقتطاعها وسط تراجع نسبي في معدلات النمو، والنماذج للتجربة الغربية المقتطعة من مسار بلد قد يكون الأكبر اقتصادا في العالم، إلا أن الدلالة قوية على أن الساعد المصري قادر على العطاء لو تأهلت له السبل وتهيأت له القنوات، بينما النموذج الأقوى اقتصاديا في العالم قد يغرق وسط فقاقيع خوارزمية إن غابت أو تغافلت جيوبه التعليمية عن التدريب والتأهيل الفني لحظة واحدة في زمن الرأسمالية والتكنولوجيا المتسارعة.
النماذج على تنوعها تؤكد حقيقة أنه لا بدّ أن يشعر العالم باختلاف لغياب تأهيلك، وأن تستشعر أن ما تؤديه لازما لمسار العمل، وهو ما تؤكده الدراسات كلها بأن التعليم والتدريب التقني والمهني، هو الضامن الأكبر للتخلص من «THE BULLSHIT JOBS»، أو الوظائف التي لا قيمة لها، هو الضامن لتحقيق التنمية المستدامة والنمو والنهوض بالدول، هذا ما اعترف به العالم على نطاق واسع خلال العقود الأخيرة.
جهود على طريق الزعامة
ثورة العالم التكنولوجيةَ الراهنة، وما تبعها من تحولات عميقة في شتى ميادين الحياة الإنسانية، وضعت بلدان العالم بما في ذلك البلدان العربية، وبينها مصر، أمام تحدي الحصول على المعرفة والتدريب، للحصول على زعامة، لن تعطى لأصحابها، إلا بالقدرة على بناء رأس مال بشري فاعل في مختلف محاور التنمية.
الدول، رغما عنها، وجدت نفسها مدعوة للارتقاء بالخدمات التعليمية الفنية والمهنية، وإعادة النظر في فلسفات وأدوات المنظومة الكبرى، لتكون قادرة على الإبقاء على الحضارة أو تحقيق الطفرة فيها، وهو ما اتجهت إليه مصر في التسعينيات بمحاولة تطبيق النموذج الألماني عبر ما يسمى بمدارس «مبارك كول»، لكن النموذج لم يكن مثاليا بتجاهل الدولة لمعادلة ربط التعليم باحتياجات السوق.
مصر حاولت التأسي بالتجربة الألمانية، التي تتميز في عمقها بوجود تعاون مثمر بين أرباب العمل والجهات الحكومية في مجال التدريب، تمثل فيما يعرف بنظام التدريب المهني الثنائي في المرحلة الثانوية، نظام التعليم الفني والتقني في ألمانيا تميز في كونه نظاما مغلقا وموجها «Structured» ويتميز بدرجة عالية في التكامل بين نظم التعليم وسوق العمل، وهو ما لم تستطع مصر استيعابه في التسعينيات عبر «مبارك كول».
في 2017، وعبر جهد حثيث من الحكومة المصرية، وقعت البلاد اتفاقا مع ألمانيا يقضي بتأسيس وتشغيل مركز مشترك للتدريب المهني في العين السخنة بمصر، ما يساهم في توفير التدريب لأكثر من 5500 من الشباب المصري على مدار الأربعة أعوام المُقبلة، في التخصصات الفنيَّة المُتقدمة التي تتميز بأهميتها للاقتصاد المصري، وبينها: «الميكانيكا الصناعية، المجالات الكهربائية والإلكترونية والتحكم والميكنة الآلي، بناء المهارات الأساسية للمتدربين في مجالات صيانة وخدمات محطات الكهرباء ومزارع الرياح».
وقتها أكدت الدكتورة سحر نصر، وزيرة التعاون الدولي، أن الاتفاقية استثمار في الشباب، الذي يعد استثمار في مستقبل مصر، إذ ستضمن الاتفاقية توفير وظائف لـ600 شاب من المتدربين، وأن التجربة تنطلق من خلال التكليف الدستوري في المادة 20 ومن خلال ما تتضمنه رؤية مصر 2030.
مصر تسرى في طريق الأمل سريانا تسعى من خلاله القيادة السياسية إلى التلاقي مع الخصائص التي تبنتها الأدبيات الحديثة للتعليم الفني والتدريب المهني، عبر الاهتمام الكبير بأن تأتي مخرجات البرامج التعليمية من حيث معارف ومهارات الخريجين متوافقة مع احتياجات سوق العمل، مع وضع مقاييس «Standards» للقدرات والمهارات حتى تأتي هذه القدرات والمهارات متوافقة مع الاحتياجات الوظيفية للخريجين.
التقدير الاجتماعي VS الجامعات التكنولوجية
منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ومنذ مدرسة «الدرسخانة الملكية» التي أنشئت بالقاهرة في سنة 1830م كأول مدرسة فنية عرفتها مصر في تاريخ التعليم في العصر الحديث، والتعليم الفني لا يحظى بالتقدير الاجتماعي المطلوب، ليخرج التوجيه الرئاسي بإنشاء 8 جامعات تكنولوجية جديدة موزعة على مناطق الجمهورية، بتكلفة 290 مليون جنيه، والبدء في 3 منها كمرحلة أولى، هي: القاهرة الجديدة، وقويسنا، وبنى سويف، وسيتم استكمال المشروع خلال الفترة المقبلة في تخصصات منها: التشييد والصيانة ومواد البناء، والعلوم الصحية والتطبيقية، والمصايد واستزراع الأسماك، والترميم، والكهرباء والطاقة، والفندقة والخدمات السياحية، والصناعات الإلكترونية والمعدنية، والجلود، وإنتاج الورق والطباعة، والسيارات والشاحنات.
تلك الجامعات في إطار رؤية مصر 2030، ستستمد روافدها من طلبة مدارس التعليم الفني التي تم تطويرها، والتي ستساهم في تحقيق نقلة نوعية في مستوى الخريجين، ما يفتح المجال أمامهم في استكمال دراستهم في كليات متخصصة، تساهم في توفير احتياجات سوق العمل.
في كثير من دول العالم ترى «سوط الحرفة» مسلطا على كتف الآلة، لكنه لا يُبقي ظهرا ولا يقطع واديا، بعكس كفاح المصريين الذين بنوا الحضارة قبل آلاف السنين وحملوها على أعناقهم حمل الرجال، «المصري الصنايعي» باني الحضارة، هكذا كان وهكذا هو الآن، بقليل من الرؤى السياسية يتبناها الرئيس عبدالفتاح السيسي حفاظا على هذا النهج، وسيظل هكذا أبدا مهما كانت سماء سوق العمل «كابية» مقفرة.. سيظل المصري رائدا بساعده، مرشدا لمن أراد السير على نهجه، حتى ولو لم يمتلك، هذا الأخير، فرسا كفرسه ولا قلبا كقلبه.