إن الإسلام السياسى لا يحتفى بالوطن كونه من عمل الإنسان، وهو لا يحتفى أصلًا بالإنسان كونه نتاجًا للعقل، وهو لا يحتفى جوهريًا بالعقل كونه خلاصة للتجربة التاريخية، وهو يحتكر التجربة والتاريخ باعتبارهما ليسا إلا تجسيدًا للمدنس؛ حيث تلعب الأفكار الكبرى دورها المحفز فى التاريخ بأقدارٍ مختلفة فى مراحل مختلفة.
ويرى بعض الكتاب والمتخصصين المستشرقين أن ثمة عناصر تُفضى إلى بروز العالم الإسلامى فى العلاقات بين الإسلام والغرب، لعل من بينها تدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية فى كثير من الدول الإسلامية التى هيأت لحركات الإسلام السياسى سيادة وسلطة كبيريْن.
ونظرًا لأن الشرق الأوسط وغيره من المناطق يتعرض لتغيير سياسى واقتصادى متسارع خلال العقد الحالي؛ فإن التوترات الناجمة عن التغيير أدت على المدى القصير إلى زيادة جاذبية حركات الإسلام السياسى فى دول كثيرة، مثل: مصر وتونس واليمن والعراق وسوريا وليبيا والسودان والأردن والمغرب.
ولذلك يقترح بعض المفكرين الغربيين ضرورة تبنى برنامج عمل لتخفيف ما يُصَور على أنه نزاعٌ بين الغرب والعالم الإسلامى، على أن يكون هذا البرنامج برنامجًا مزدوجًا يشمل فصل الصعوبات الواقعية من تدهور اقتصادى وسياسى وأزمات اجتماعية عن تعبيراتها الدينية المشوشة، ثم التصدى لهذه المصاعب ذاتها فى ظل مفهوم كلى للعلمانية والتنمية، علاوة على قيام أوروبا الغربية بوضع سياسة متوازنة إزاء القضايا التى يُلخصها تعبير الإسلام.
ولعل الإشكالية الكُبرى أن العرب لا يزالون مسكونين حتى اليوم بالتاريخ الذى يشكل خارطة تفكيرهم دون النظر إلى ما يحدث فى الآونة الراهنة من صراعات الإسلام السياسى، الذى أسهم فى ترسيخ رؤية أحادية للفكر العربى المعاصر اقتصرت فيها العودة على تيار بعينه قام - بقصد أو دون قصد - على تكوين رؤية فكرية أو صورة ذهنية مغلوطة لدى الآخر عن الإسلام، مما انعكس على كون الصحوة (الإسلامية) لحركات الإسلام السياسى كرست نوعًا من التأزم، وأدت إلى توليد دوامات متتالية من العنف، مما جعل هناك نحرًا وهدمًا متتاليًا لقيم الحداثة، وهو ما أدى إلى تأزم للمجتمع العربى والإسلامى وتعرضه لاختناقات فكرية وسياسية، جعلت العالم الإسلامى يقف على مسافات ملتبسة فى قبوله بالديمقراطية التى رفضت قبول جماعة «الإخوان» فى سُدة الحكم، لفشلها على المستوى الحركى والتنظيمى فى إرساء تجربة ديمقراطية للإسلاميين فى الحكم، ومجاراتها التزامًا للشرعية السياسية التى يؤمن بها الشعب المصري.
وقد شهدت العقود الأخيرة عديدًا من التطورات والتغيرات، منها الانخراط السياسى فى الدين وتعاظم دوره؛ حيث لعبت جماعة «الإخوان» فى السنوات الأخيرة دورًا أساسيًا فى الحياة السياسية فى مصر، بعد خوضها الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، بما سمى «عام الجماعة»، مستغلةً حالة الفراغ السياسى الذى خلفه سقوط نظام حُكم الرئيس الأسبق حسنى مبارك.
وترجع الجذور التاريخية لجماعة «الإخوان» إلى القرن الماضى منذ تأسيسها فى عام 1928، على يد حسن البنا لتتحول من حركة هلامية التنظيم وفردية القيادة إلى مؤسسة سياسية متماسكة نشطة تبنت الوسائل والآليات السلمية للدعوة والخدمات الاجتماعية، والآليات المتطرفة والإرهابية لتبنيها فكر التنظيمات السرية المسلحة. ومن رحم هذه الجماعة ولدت حركات الإسلام السياسى الأخرى، مثل: جماعة «التكفير والهجرة»، وجماعة «الجهاد»، وتنظيم «القاعدة»، وجماعة «أنصار بيت المقدس»، وتنظيم «داعش». وقد توافقت هذه الحركات والتنظيمات الإرهابية كافة على اعتبار مصر هدفًا مفضلًا لها فى التاريخ المعاصر بدايةً من مقتل الشيخ الذهبى مرورًا باغتيال الرئيس الأسبق أنور السادات فى حادث المنصة، وحادث مذبحة السياح فى الدير البحرى بالأقصر، وانتهاءً بكل ما وقع بمصر من أحداث إرهابية استهدفت الجيش والشرطة والقضاة والمساجد والكنائس والسياحة والطيران بعد إسقاط حكم جماعة «الإخوان» فى مصر بفعل ثورة شعبية غير مسبوقة رافضة لحكم الإسلاميين.
لقد أظهرت قوى الإسلام السياسى قدرة كبيرة فى إيصال رسالتها إلى قاعدة جماهيرية عريضة، فى إطار تطوير خططها واستراتيجياتها وطرح أفكارها على أنها حلٌ بسيط للأزمات والإشكاليات الموجودة على الساحة السياسية، حيث تشكلت أعمالها فى إطار العنف ونبذ الآخر، ويرجع ذلك إلى الإشكالية التاريخية التى انطوت عليها ظاهرة الإسلام السياسي، فضلًا عن الإسهامات الأوروبية الفاعلة والمهمة التى ارتبطت بالثورة الصناعية، وترتب عليها ازدهار أوروبا على نحو جعل منها نماذج متقدمة تتعاطى مع المجتمعات الأخرى بمعايير متعددة ومهمة، الأمر الذى جعل جميع الدول الغربية بمثابة كتلة صماء تدين بالمسيحية، على الجانب الآخر نلمح تراجعًا على مستوى العالم العربى والإسلامى، لم تستنهضه مقومات النهضة بقدر ما تحكمت فيه مذاهب ورؤى تعود مرجعيتها إلى الفكر التعبوى والدينى أمثال: ابن تيمية والمودودى وسيد قطب وحسن البنا، وهى رموز لها مواقعها فى التفسير والفقه، لكنها رأت أن الدين بأحكامه لا يخضع إلى العقلنة، من هنا صارت الأحكام بمثابة أدوات ردع أكثر من كونها وسائل ومعالم للنهوض الفكرى والذهني.
وعلى الجانب الآخر، نجد أن الإشكالية التاريخية للتيارات السلفية بمختلف أطيافها التى انتهجت طاعة الحاكم وتحريم الخروج عليه ووجوب الطاعة لأولى الأمر، رأت من خلال استشرافها مستقبل أن السلفية كادت تختفى من المشهد السياسى نظرًا لرفض الشارع المصرى بعد إسقاطه لحُكم جماعة «الإخوان»، وتيارات الإسلام السياسى بعد ثورة الثلاثين من يونيو 2013، فحذرت ونصحت وأوجدت البدائل للحيلولة دون حدوث ذلك، حتى أنها كانت بمثابة الإعلان عن ميلاد دولة بلا دين ودين بلا دولة؛ حيث تم الفصل بعلمانية عمت أرجاء القارة الأوروبية، ولا تزال حتى اليوم وهى تحاصر أشكال التسلط كلها باسم الدين، وبذلك نجد أن الاستشراق بالغرب أدى إلى رؤية الثقافة الإسلامية كشىء ثابت فى الزمان والمكان، واعتبارها غير قادرة على تحديد هويتها، وهذا ما أعطى أوروبا إيمانًا بتفوقها الذاتى فكريًا وثقافيًا، ومن ثم زعمها أنها تقوم بتثقيف وتمدين الشعوب الشرقية فى إطار الوصف المضلل للثقافة العربية الإسلامية والنظرة السلبية لها، وقد تم نشر هذه المعرفة السلبية من خلال الترويج لصور نمطية عن الذهنية العربية والمجتمع الإسلامى والروح الشرقية، فى إطار الهيمنة على وسائل الإعلام والتأثير فى نشر رسالتها الإعلامية عن المجتمع الإسلامي.