نهار خارجي: وكالة الغوري – القاهرة – 26 يناير 1517.. ليلة من ليالي شتاء مصر المحروسة، ليلة ورث فيها حكم العثمانلي ميراث المماليك، السماء كعادتها ملبدة بالغيوم، تعانقت السحب، أمطرت، بين الحين والآخر تهتز بفعل رعد هائل، يشق ضبابها الأسود خيوط من البرق المضيء، ما أضفى على المدينة القديمة لوحة كئيبة، داخل منزله وقف "منصور" يراقب بعيون ملؤها الرعب الطريق من فتحات تلك المشربية، ينتظر زائرًا لم يدعوه، يعلم أنه لا يضمر له خيرًا.
على رأس الحارة التي يقطن بها تحرك ركب من بضعة خيول، يحيط بها عشرات الجنود، يحملون بأحد أياديهم المشاعل لتضيء الطريق، وباليد الأخرى يقبضون على سيوفهم حذر المباغتة، لم تهتز أبدانهم لبرودة الجو، لم يبالوا بما علق بأقدامهم من وحل، خلف المشربية حملقت تلك العيون، خفق قلب صاحبًا جزعًا، ارتعدت أوصاله ألمًا، ليس لبرودة الشتاء، ولكن لبرودة هذا اللقاء، فقد كان يدرك أن دوره قد حان، وعلية أن يلبي أمر ذلك السلطان.
تراجع "منصور" مذعورًا، راح يتلفت يمينًا ويسارًا يلتمس غوثاً، راح يردد بصوت باكي "يا خراب بيتك يا منصور.. علي فين هياخدوك يا منصور"، بخطوات متعثرة أسرع يبحث عن مخبأ، داخل غرفة الخزين الصغيرة، انزوي في ركن خلف أجولة الطحين، جلس القرفصاء مُحيطًا جسده الضئيل بحصيرة من الخوص بالية، حاول أن لا يصدر صوتًا، ولكنه فشل فشلًا ذريعًا، فقد خلق اضطراب قلبه وارتعاش جسده وارتجافة أوصاله وأنفاسه اللاهثة حالة من الضوضاء، نظراته الزائغة التائهة هنا وهناك، أوحت لمن يراه أن من يطرق أبواب منزله ليس ضيفًا مرحبًا به، بل رسولًا للموت.
جلس "منصور" في مخبئة يسترق السمع، حتى نما إلى أذنيه وقع أقدام ثقيلة، أفلتت منه صرخة مكتومة كادت تنبئ عن مخبئه، فعاد يضغط بكفيه على فمه كيلا يصدر صوتًا، داخل بهو المنزل وقف الجندي العثمانلي يصرخ بصوت ركيك هائل، أين منصور الخياط، وعندما لم يُجيب أبناء منصور وزوجته، راح يضربهم بعصا يمسكها في يده، لم يتمالك "منصور" نفسه أمام صراخ زوجته وأبناؤه، فأزاح ستار حصيرته خارجًا من مخبئه، لينقض على ذلك الجندي الذي لم يراعي حرمة بيته، لم يصمد كثيرًا تحت وطأة سنابك خيل، اقتحمت داره دون استئذان.
استسلم "منصور" الخياط وترك جنود العثمانلية يسحلونه، دون يأس أطلق ذراعيه محاولًا التشبث بشيء ما، يتأمل وجوه أبنائه بعيون زائغة لن تراهم مرة ثانية، وأذان تسمع نحيب زوجة تقف على أحد أركان المنزل، تحاصرهم أسنة السيوف من كل صوب وحدب، لم يكن يعلم عندما وجد نفسه محاطًا بتلك الخيول إلى أين سيصطحبونه، وماذا سيفعلون به، ولكنه كان يدرك أن أمر جاء من ذلك السلطان القابع في الأستانة، أمر جنده باختطاف كل صاحب مهنة في مصر المحروسة، أدرك ذلك عندما استيقظ صباح هذا اليوم وقد سمع باختطاف جميع أصحابه، محمود صانع النحاس، وعلى صانع السجاد، ومروان صانع الخزف، وجابر الخراط، وحامد الخطاط، وغيرهم، أُجبروا علي الرحيل إلي أرض العثمانلية.
الشتاء الأسود
قيل قديمًا "اللي بنى مصر كان في الأصل حلواني".. لكن جولة واحدة في ربوع مصر المحروسة وحاضرتها القاهرة، ستجبرك على اليقين بأن من بنى مصر كان أصله صنايعي، حرفي ماهر، استطاع أن يصنع بيديه العاريتين حضارة عريقة، تقلبت الأمم زالت ونمت وهو لم يتغير، منذ فجر التاريخ وما قبل عصر الأسرات تشهد تجمعات حضارية في نقادة وبني حسن على قوة الصنايعي المصري، ذلك الصانع الذي أبدع الحسن بن الوزان المشهور "بليو الأفريقي" في كتابه "وصف أفريقيا" في التباهي بحرفيته، ذلك الرجل ولد في غرناطة عام 1495 قُبيل استيلاء الإسبان عليها، وقام بزيارة مصر عام 1516، ليروي لنا ما صنعته أياديهم.
"لم يُقاس أهل مصر شدة مثل هذه".. هكذا وصف المؤرخ المصرى محمد بن أحمد بن إياس الحنفي فى كتابه "بدائع الزهور فى وقائع الدهور"، بل إنه تمادى في وصفه لما شاهده بأم عينيه، فقد وقع فيها مثل ما وقع من جند هولاكو فى بغداد، حتي أنه قال "وقع فى القاهرة المصيبة العظمى التى لم يسمع بمثلها فيما تقدم"، كانت أولي جرائمهم ذلك الأمر الذي أطلقه سلطانهم سليم الأول، بشأن نقل أمهر العمال والصُناع وأرباب الحرف فى مصر إلى إسطنبول، ما سبب الخراب وتوقف العديد من الصناعات التى اشتهرت بها مصر المحروسة.
بن إياس في موسوعته قال: إن قرار سليم الأول نقل بعض الحرفيين المتميزين المهرة وأرباب الصناعات المختلفة إلى اسطنبول تسبب في انقراض أكثر من 50 حرفة وصناعة تميزت بها مصر، ما أدى إلى تخلفها وعزلتها ثلاثة قرون، ما يؤكد بشكل جلي دورهم فيما كانت تعيشه القاهرة من مستوى حضاري لم تعشه أوروبا نفسها، يكفي ما أشيع عن ابن عثمان، أنه خرج من مصر وبصحبته ألف جمل محملة ما بين ذهب وفضة، هذا خلاف ما غنمه من التحف والسلاح والصينى والنحاس، بل إنهم نقلوا حتى الرخام الفاخر.
كانت القاهرة قبل قدوم العثمانلية عامرة بأبنيتها الفخمة وتراثها المعمارى، ما حرض المصريين على المباهاة بها، كانت يد الصنايعي والحرفي المصري أوضح وأجل، بقي منها ما لم تطله يد الحرق أو النهب والهدم على يد الأتراك، نراها بوضوح في المساجد والبوابات والمنازل والخانات والأسبلة والأضرحة، كل هذا ما كان للعثمانلية أن يتركونه دون أن يبنون لأنفسهم حاضرة تنافس حاضر الخلافة وحاضرات أوروبا التي لم يستطيعوا بناءها بأيدي الترك.
هجرة غير شرعية
الحقيقة أن ما فعله سليم الأول لا يختلف عن ما فعله نابليون بونابرت، فكلا الاثنين جاء غازيًا لدولة كان يعتقد أنها بلا أي هوية حضارية، كلا الاثنين صُدما حينما رأوا ما وصلت إليه مصر من حضارة عريقة ظهرت جلية في صنيع يديه، الفرق أن سليم الأول جاء قبل نابليون بأكثر من مائتي وثمانين عاما كاملة، أدرك الأول أهمية أن ينقل المصريين لصناعة تلك الحاضرة العريقة ليبنوا له حاضرته، في حين لم يجد الثاني هؤلاء المهرة، فأمر بنقل بعض مما صنعوه في الأزمنة الغابرة، فقد أقدم الأول على جريمة عانت منها مصر ما يقرب من ثلاثة قرون، فعندما رأى ما بمصر من فنون الصناعة وبديع الحرف، أمر بنقل جميع الصناع والحرفيين وأرباب المهن إلى إسطنبول.
كان الجنود العثمانيون ينقضون على منازلهم أو ورشهم وأماكن عملهم، ثم يشحنوهم داخل سفن كالتي ينقل بها الإسبان والبرتغاليين عبيد أفريقيا إلى القارة الأمريكية، وبمجرد أن تمتلئ تلك السفن، يرسلونهم أفواجًا إلى إسطنبول، فأخذوا البنائين والنجارين والنحاسين والمرخمين والقبانيين والحدادين والوراقين والمبلطين والنحاتين، وغيرهم من أصحاب الحرف المهرة، وأصحاب الفنون، حتى عدهم ابن إياس بخمسين مهنة خلت منها مصر عقب تلك المصيبة، ما أدى إلى انهيار الصناعة والبناء في مصر طيلة عقود وقرون وجودهم في أرض المحروسة.
اتفق المؤرخون على نقل عمال وصناع ثلاث وخمسين مهنة بالقوة إلى الأستانة، وأن الدولة العثمانية بهؤلاء الصناع المصريين بدأت نهضة كل الفنون التركية المعروفة، فبهم أضحت الدولة العثمانية إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس، وحينما تحررت مصر عام 1805 سقطت تلك الإمبراطورية وأضحت رجل أوروبا المريض الذي لا حول له ولا قوة، ولأن حاضرته لم تكن صنيع يديه، تهاوت بنفس السرعة التي بناها فيها الحرفي والصنايعي المصري، وإن كانت بصمات المبدعين الحرفيين المصريين ما زالت موجودة وتميز الحضارة التركية.