السبت 23 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

أوروبا.. فوضى الانسلاخ عن الجذور

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يصعب تحديد تاريخ دقيق لبدء انسلاخ الشارع الأوروبى عن جذوره.. سواء مع انطلاق التدخلات العسكرية فى الشرق الأوسط عام 2003.. أو تمدد التنظيمات الجهادية ونجاحها فى استقطاب أعداد كبيرة من مختلف الجنسيات الأوروبية.. أو تدفق موجات الهجرة إلى أوروبا نتيجة الفوضى التى خلقتها السياسات الأمريكية والأوروبية الخاطئة فى المنطقة.. أو التداعيات الاقتصادية- السياسية التى خضعت لها هذه الدول منذ إنشاء منظومة الاتحاد الأوروبى وأدت إلى شطرها بعد عقود بين أوروبا التى تنتهج قيمها من خلال هذا الاتحاد.. وأوروبا التى استسلمت للعنف والإضرابات وفرض الشارع سياسة الأمر الواقع مقابل تراجع الثوابت الليبرالية الأوروبية. الحقيقة المؤكدة.. احتجاجات الشارع الأوروبى استدعت «عفريت» غالبا ما سيخرج عن سيطرتها دون أن تتمكن من صرفه. استدعاء «غريب» عن منظومة قيم وقواعد اللعبة السياسية التى ترسخت قواعدها فى برلمان، أحزاب يسار، يمين، وسط، ونقابات تتحكم جميعها فى المشهد السياسي.
اقتصاديا، توحيد العملة وفق بنود الاتحاد الأوروبى أشعل موجة غلاء فى كل الدول الأعضاء، رافقها ركود اقتصادى وتراجع مستوى الأجور والقدرة الشرائية.. ما دعا إلى مطالبة بعض الساسة الخروج من العملة الأوروبية الموحدة بعد تدنى ثقة شعوب دول الاتحاد فى اليورو.. بل فى المشروع الأوروبى بأكمله. الشق الاقتصادى لفشل اليورو تضافر مع إحباط سياسى بعد تراجع قناعة الأوروبيين بأن طريق الوحدة السياسية لن يتحقق سوى عبر الوحدة الاقتصادية، ما دفع أوروبا إلى التمادى فى تبنى الوحدة النقدية حتى وإن ألقت ظلالا سلبية على اقتصادها الداخلي. مشهد موجات الاحتجاج التى اندلعت استدعى مخاوف تفكيك أوروبا ونسيجها المجتمعى الرافض لمبدأ العنف وسيلة للتغيير بعدما أصبح أكثر تقبلا له، مع تمدد المساحة السياسية للنزعة القومية والشوفينية التى تتفق على التشكيك فى جدوى الاتحاد، سواء كانت تنتمى إلى أقصى اليمين أو اليسار. على الصعيد الأمني، اصطدم اقتراح إنشاء جيش أوروبى موحد بمعارضة أمريكية لم ينجح الاتحاد فى فرض إرادته عليها. تجاوزت التوقعات السياسية القلق تجاه المزيد من تصاعد نفوذ الأحزاب القومية أو المتطرفة فى انتخابات الاتحاد العام القادم إلى هزيمة فكرة الاتحاد كمنظومة أمام تزايد المد- سواء شعبيا أو حزبيا أو نقابيا- الداعى إلى أهمية نهوض دول أوروبا بنفسها اعتمادا على إمكانياتها الاقتصادية. 
اجتماعيا، طبيعة الاحتجاجات لم تصدم حكومات البلاد التى حدثت بها فقط، مثل بلجيكا، صربيا، هولندا، ألمانيا، المجر، بل ظهرت أخيرا فى لندن، لكنها استحضرت مشاهد غير مألوفة مسبقا فى هذه الدول التى تعتمد الديمقراطية الليبرالية، حيث كانت تجمعات الاعتراض تتم وفق مساحة وعدد ساعات محددة بناء على ترخيص مسبق من الجهات الأمنية، بعيدا عن مظاهر التخريب والسرقة. بعض الآراء نسبت هذه الممارسات المستحدثة إلى ازدياد عدد الهجرة وفتح أبواب أوروبا أمامها.. لكن الدقة تقتضى عدم إعطاء هذا العامل أولوية، خصوصا أن متطرفى اليمين واليسار سارعوا إلى إدماج أنفسهم فى هذه الاحتجاجات طمعا فى مكاسب سياسية.
سياسيا، تجاوزت الاحتجاجات المطالب الاقتصادية إلى أخرى سياسية تمس مستقبل أوروبا وسياساتها المستقبلية، ما دفع بعدة مراجعات حول الرهان على صلابة وثبات الديمقراطيات المستقرة فى أوروبا، رغم أن المحتجين قدموا أنفسهم كحركة شعبية لها مطالب مشروعة، لكنها سرعان ما حصلت على تضامن الأحزاب اليسارية واليمينية ثم انتهاز ما يحدث فى التراشق بالاتهامات المتبادلة بينهما حول استغلال هذه الاحتجاجات. أصوات المحتجين المطالبة باستقالة حكوماتهم والخروج من الاتحاد الأوروبى تمثل تحولا كبيرا فى قواعد الحياة السياسية التى اعتمدتها أوروبا عبر تاريخها المعاصر، ويُعلِن بوضوح تمرد الشارع على المنظومة التى تبنتها.. مبدأ قصر إجراء أى تغيير على صناديق الانتخابات فقط لم يعد يحكم طبيعة الشعب الأوروبى وهو يطالب لأول مرة بأن يحل مكان مؤسساته الحكومية وثوابته السياسية فى إدارة السياسات العامة لبلاده، مطيحا باهم «التابوهات» الحاكمة لقواعد ومسار الانتقال المأمون للسلطات، فى بلاد طالما افتخرت بسيادة المؤسسات التقليدية من برلمان وأحزاب تعمل وفق الدستور، وقانون يحكم انتخاب قادتها بآلية ديمقراطية. الإشكالية الأخرى تكمن فى عدم حصر الانقسام سواء اقتصاديا أو سياسيا بين دول قارة أوروبا فى ملفات كالهجرة أو غيرها.. لكنه انتقل بشكل أكثر حدة داخل الدولة الواحدة، سواء على صعيد التيارات المختلفة أو الإيقاع العام الموجِه لرأى الشارع.
تخاذل الاتحاد الأوروبى ظهر واضحا فى صمته أمام التحديات التى تهدد بقاء هذه المنظومة.. خصوصا أن تصاعد وتيرة العنف فى موجة الاحتجاجات التى انتشرت فى دول أعضاء الاتحاد تضع الشعب الأوروبى بين بدائل صعبة غالبا ما تفرض نفسها بعد الفوضى.. السؤال الذى يطرح نفسه، هل يستمر عجز الاتحاد رغم ما ترجحه توقعات العام المقبل من عقبات ستخصم من قوة تأثير دوره على مجريات الأحداث العالمية.