كنا نقرأ عن أسيوط عام 1982 ونتابع مذبحة «مديرية الأمن» التى ارتكبها متأسلمون إرهابيون، كان هذا قبل اختراع الإنترنت، نجرى على بائع الجرائد ونقرأ الحروف السوداء ونرى صور الأبيض والأسود وقد برزت منها عيون جاحظة وعشرات اللحى غير المشذبة، كبارنا قالوا لنا هذه موجة عابرة وستنتهى، فمصر التى علمت الدنيا التوحيد والحضارة لا تعرف التطرف.
انخدع كبارنا وماتوا قهرًا أو اغتيالًا، وواصلت الموجة الإرهابية صعودها نحو البيوت والحدائق والضمير، سكين فى رقبة نجيب محفوظ، ورصاصات فى جسد فرج فودة، ومئات المئات من الشهداء الذين ساقهم حظهم العثر نحو الطريق الذى يتقاطع مع أعداء الحياة، كان الفزع مع كل حادث يشمل عموم مصر المحروسة من الإسكندرية إلى أسوان، ولما تضخم السجل صار القتل عاديًا كالإنفلونزا والصداع، تنفعل عندما تشاهد المصيبة على الفضائيات ثم تبحث عن الريموت كونترول لتغيير القناة باحثًا عن مخدر للنسيان.
فى السنوات الأخيرة صارت «المنيا» هى محط الأنظار لما تشهده من عمليات منتظمة، صارت المنيا فى عين الإعصار الذى كنا نظن أنه يسكن فى كهوف سيناء، ويتم التعامل معه من خلال العملية الشاملة، ولكننا نتأكد يومًا بعد آخر أن كل الظن إثم.
المنيا التى كانت عاصمة مصر فى زمن ما، والتى أنجبت للإنسانية عشرات الرموز الفكرية والفنية والسياسية وفى مقدمتهم «نفرتيتى» التى تتخذها المحافظة شعارًا ورمزًا لها، وليس آخرهم هدى شعراوى وطه حسين وعمار الشريعى، المنيا التى يقال إنها المدينة التى أنجبت مارية القبطية زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام تخرج من تراثها لتكون عاصمة للتطرف والإرهاب والعنف.
كتبت عن المنيا عقب كل عملية سوداء معتقدًا أن كتابتى ستكون نهاية الأحزان، ولكن يصدمنا الواقع فى كل لحظة بما هو ليس فى الحسبان، نفهم أن سيارة دفع رباعى مختبئة فى جبل ما، تقطع الطريق على باص يضم مسيحيين متجهين للصلاة فى الدير، وينطلق منها الرصاص مخلفًا جريمة يمكن وصفها بوصمة العار، ولكن ما لا نفهمه هو أن فرد شرطة مكلف بحراسة كنيسة يفتح نيرانه ليقتل اثنين من المسيحيين وبعدها يختلف المتابعون إذا كانت تلك الجريمة جنائية أم سياسية.
هى جريمة عنف غير مبررة، هى جريمة تكشف مدى التدهور الذى نعيشه حتى أن الرجل المناط به حماية القانون يعتدى على القانون ويشد أجزاء سلاحه العسكرى ليقتل، ليست جريمة جنائية، ولكنها جريمة معقدة تحتاج إلى وقفة ومراجعة وقرارات صعبة، ليس عيبًا أبدًا خضوع رجال الأمن إلى الكشف النفسى لدى أطباء خبراء، هذه الخطوة هى ألف باء اطمئنان لمن يعملون فى تلك الصناعة، فالأمن ليس مجرد ملابس خشنة وسلاح وشارب كثيف، ولكنه علم لا يرتقى فى سلمه إلا الخبير العارف بأصوله، ومسألة الكشف النفسى ليست شباك أكتبه ليقفز منه المجرم قاتل عماد وديفيد كمختل عقليًا، فجريمة أمين الشرطة الإرهابى تم توصيفها فى النيابة قتل عمد.
ومع وصف التهمة واجتهاد النيابة تبقى ثغرة واسعة هى فى الحقيقة ليست ثغرة، ولكنها هوة سحيقة، ولكننى أصفها بـ«ثغرة» تأدبًا واحترامًا لفكرة القضاء، أقول تبقى ثغرة وهى استطالة مدة التقاضى فى بلادنا، يعيش المجرم فى تلك المدة محروسًا ومتعافيًا فى السجون على نفقة الدولة، ومن تأجيل إلى تأجيل ومن استئناف إلى نقض، حتى أن الحق إذا عاد لا يعود فى زمن أبناء الضحايا ولكن قد يراه أحفادهم، لا نبخس حق المتهم فى الدفاع عن نفسه ولكن فى زمن تصوير الموبايل والجرائم المذاعة على الهواء، ووفق قاعدة الاعتراف الذى هو سيد الأدلة فاختصار الزمن فى التقاضى قد يكون رادعًا لمن تسول له نفسه فى البلطجة على الدولة وعلى الأبرياء.