قضى أرسطو حياته، وهو يعتقد اعتقادًا راسخًا أن الحقيقة تحظى بقيمة لذاتها، وأنها هدف فى حد ذاتها، وتجلى هذا فى مقولته الخالدة «الفلسفة هى العلم الذى يدرس الحقيقة». الحقيقة كانت تعنى أيضًا لأينشتاين الكثير فقد رأى أن البحث عنها أكثر قيمة من امتلاكها ورأت روزا لوكسمبيرج أن من واجبنا - أى المثقفين - أن ندرس الحقيقة، أن ندرسها بشموليتها أو لا ندرسها على الإطلاق وأن ندرسها بوضوح وصراحة دون غموض وتلهمنا فى ذلك ثقتنا الكاملة بقواها.
هؤلاء وغيرهم كثيرون أولوا الحقيقة أهمية قصوى ورأوا أنها لو لم تشغل بال المهتمين بالثقافة والفنون فسيتوقفون تلقائيًا عن لعب أى دور رئيسى فى مجتمعاتهم وللأسف هو ما تعانيه ثقافتنا التى تعد الحقيقة فيها موضوعا يصلح للأدب التخيلى وليس للدراسة الفكرية كما يجادل على نحو متكرر بأنه ليس هناك شيء اسمه الحقيقة ويطلب من الناس أن يقبلوا بدلاً من الحقيقة آراء مختلفة تمثل حقائق متعددة كما يقول فرانك فوريدي.
عندما تغيب الحقيقة يحل محلها الزيف، ومن ثم يغيب الجمال ويسود القبح والابتذال ويكثر المزيفون والمخادعون، لذا تعد الحقيقة هى الضمانة الوحيدة التى تعطى الفن والثقافة المكانة الرفيعة التى حظيت بها منذ أن عرف الإنسان الفن والإبداع وليس غريبًا أن تلصق الحقيقة بالفن والجمال «الجمال هو الحقيقة والحقيقة هى الجمال».
وكما يقول الكاتب الفرنسى باسكال بونيفاس فى كتابه «المثقفون المزيفون» الأخطر من أولئك الذين ينخدعون، هم أولئك الذين يخدعون: «المزيفون». ولكى يتمكنوا على نحو أفضل من إقناع المشاهدين أو المستمعين أو القراء، يلجأون إلى حجج، هم أنفسهم لا يصدقونها، قد يؤمنون بقضية لكنهم يعمدون إلى وسائل غير شريفة للدفاع عنها. إنهم إذن «مزيفون» يصنعون عملة ثقافية مزورة من أجل ضمان انتصارهم فى سوق المعتقدات الراسخة.
هناك من هم أسوأ: «المرتزقة» هؤلاء لا يؤمنون بشيء، سوى أنفسهم، ينتسبون (أو بالأحرى يتظاهرون بالانتساب) إلى قضايا ليس لقناعتهم بصحتها، بل لأنها فى تقديرهم واعدة ولها مردود مهم وتسير فى اتجاه الرياح السائدة.
ومن شدة تكرار الحجج نفسها، قد ينتهى الأمر بالـ«مرتزقة» إلى إقناع أنفسهم بصحة التزامهم. الفاصل بين «مزيفون» و«مرتزقة» ليس حادًا. فجميعهم يدركون، فى كل الأحوال، مخالفتهم للأمانة الفكرية، وجميعهم لا يعبأون بها، لسببين:
الأول: هو أن الغاية تبرر الوسيلة، ويرون أن الجمهور العريض ليس ناضجًا بما يكفى لكى يتحسب للطوارئ وأنه من المناسب توجيهه ولو بوسائل لا تنطبق عليها كثيرًا معايير الأمانة.
الثانى هو انطلاقه من دفاعهم عن الطروحات السائدة، لن تتعرض وسائلهم الملامة قط للعقاب، لماذا يربكون أنفسهم بالتدقيق والتمحيص؟ يحتاج قول الحقيقة إلى مجهود إضافى للإثبات، بينما الكذب لا يحتاج، كما أنه لم يعد سببًا لفقدان الأهلية، ومن الحماقة عدم الاستفادة من ذلك.
يحكى «بونيفاس» حكاية أوردها جان بوتوريل فى كتابه «أعزائى المحتالين» بأن فرانسوا ميتيران تلقى عقب انتخابه رئيسًا لفرنسا بوقت قصير دعوة من مارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا فى ذلك الوقت لزيارة المملكة المتحدة. فطلب منها ميتيران أن يلتقى خلال زيارته بعدد من المثقفين الإنجليز فأجابه المسئولون عن الأمر بأنهم ربما يجدون له كتابًا ولكن ليس مثقفين.
طلب ميتيران يدل على أن المثقفين فى فرنسا يتمتعون بمكانة خاصة يمكن إرجاعها إلى عصر الأنوار وتجذرها الذى بدأ مع قضية «دريفوس».
ويرى أن المثقفين ليسوا رجال معرفة أو علوم وحسب ولكن مساهمتهم فى قضايا الجدل الذى يخوضه المجتمع والتى توصلهم إلى مرتبة المثقف المرموقة هذه.
يورد الكاتب واقعة تخص «فولتير» الذى كان يتمتع بمكانة خاصة لم تنبع من مؤلفاته فقط ولكن وقوفه إلى جانب قضايا باسم الفكرة التى كونها عن العدالة وخاصة قضية «كالاس»، ذات الطابع الرمزي، حين اتهم ذلك البروتستانتى زورًا بسبب انتمائه الدينى بقتل ابنه، وكذلك التزام فيكتور هوجو السياسى سواء تعلق الأمر بدفاعه عن الجمهورية أو نضاله ضد حكم الإعدام أو تصديه للقضية الاجتماعية لا يجعل منه كاتبًا عظيمًا وحسب بل أحد عمالقة البانتيون الفرنسى أو مقبرة العظماء.
يطرح المؤلف سؤالاً ضروريًا وملحًا: ما الفائدة التى يفترض أن تجنى من هذه المكانة شديدة الخصوصية؟ ما الدور الذى يفترض أن يلعبه المثقفون؟ ما السبيل لتحقيق مهمتهم؟ ويجيب عن هذا التساؤل عبر حكاية تعود إلى عام ١٩٢٧ عندما نشر جوليان بندًا كتاب «خيانة المثقفين» يفضح فيه سلوك «أولئك الذين لا يتجه نشاطهم بحكم طبيعته نحو غاية عملية»، وأنه فى نهاية القرن التاسع عشر حدث تغيير رئيسي: بدأ المثقفون يمارسون لعبة الأهواء السياسية. أولئك الذين كانوا يشكلون مكبحًا للواقعية المبتذلة عند الشعوب جعلوا من أنفسهم محرضًا لها.
إن البحث عن الحقيقة وحده فى تقدير «بندا» هو الذى يجب أن يوجه المثقف، لذلك يدعو لابتعاد المثقفين عن الأهواء المعاصرة: «من الواضح منذ مائتى عام أن غالبية المثقفين الذين بلغوا مجدًا عظيمًا فى فرنسا مثل فولتير وديدرو وشاتوبريان ولامارتين وفيكتور هوجو وأناتول فرانس وبارس قد تبنوا موقفًا سياسيًا ما وإننا سنلاحظ بأن المجد الحقيقى لدى بعضهم يعود إلى تاريخ تبنيهم ذلك الموقف».
يشرح البعض كما جاء فى الكتاب مخالفًا رؤية بندا بأن «خيانة المثقفين» تكون فى الصمت وعدم الالتزام وعدم الاكتراث بقضايا المجتمع وبالحياة الحقيقية.
المثقفون مطالبون بوضع موهبتهم وشهرتهم فى خدمة قضايا أكثر عمومية وبالالتزام بالنضال ضد المظالم هذا ما يطالب به بول نيزان بقوة فى «كلاب الحراسة» التى نشرت عام ١٩٣٢، ويتساءل فيه «إذا كان الشبان المبتدئون فى الفلسفة ما زال بوسعهم الاكتفاء بالعمل فى الليل دون أن يتمكنوا من الإجابة على أى سؤال متعلق بمعنى البحث الذى ينخرطون فيه وتأثيره.. لقد آن الأوان لكى يتم وضعهم أسفل الجدار لكى يتم سؤالهم عن رأيهم بالحرب، بالاستعمار، بترشيد المصانع، بالحب، بمختلف أنواع الموت، بالبطالة، بالسياسة، بالانتحار، بأجهزة الشرطة، بالإجهاض، بكل العناصر التى تشغل الأرض حقًا لقد آن الأوان لكى يتم سؤالهم عن موقفهم».. يخلص «نيزان» إلى أن المفكر الذى لا يطابق بين فكره والعمل التحررى يجعل صداقته المعلنة للبشر عقيمة.
نجح «بونيفاس» فى كتابه أن يكشف أولئك الذين يحاولون بث الرؤى الأحادية عبر كتاباتهم من أجل مصالحهم الشخصية وأولئك الذين دافعوا عن قضايا باسم الحقيقة، وهم يعلمون زيف ما يروجون له واستخدموا وسائل لا أخلاقية نتج عنها فى النهاية ضحايا فى البوسنة والعراق وغيرهما، ويظل العالم يتعامل معهم بوصفهم مثقفين، وهم أبعد ما يكونون عن الثقافة وما تعنيه وأجهل ما يكونون بدور المثقف الذى لا يمانع - إذا كان حقيقيًا وصادقًا ومخلصًا لطبيعة دوره فى المغامرة بحياته لإجلاء الحقائق والدفاع عنها.