الجمعة 04 أكتوبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

ثقافة

فصل من رواية إبراهيم عبد المجيد الجديدة "هنا القاهرة"

الروائي الكبير إبراهيم
الروائي الكبير إبراهيم عبدالمجيد
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ينتظر الروائي الكبير إبراهيم عبد المجيد روايته الجديدة "هنا القاهرة" التي تصدر في معرض الكتاب عن الدار المصرية اللبنانية.
عبدالمجيد، قام بنشر فصل منها على حسابه الخاص بموقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك":

"كل شيء هنا مرتبط بالثقافة والمثقفين وعطر التاريخ، ليس هناك مثقف إلا ومرّ من هنا تماما كالأحبة. بدا سعيد يحكي لي عن شارع خان الخليلي وشارع المعز قلت له ضاحكا: أعرف الكثير عن الشارعين ولا تنس أني أمضيت رمضان العام الماضي والذي قبله تقريبا هنا". ثم قلت له: إن نجيب محفوظ الذي لم أواظب على لقائه بالأدباء هو السبب الحقيقي لمجيئي إلى القاهرة بما قرأته له من أعمال، الثلاثية وخان الخليلي وبداية ونهاية وزقاق المدق، ثم حدثته كيف أنني تجولت هنا كثيرا بعد أن ينتهي عملنا كل رمضان في السرادق الذي تقيمه الثقافة الجماهيرية بحديقة الخالدين تقدم فيه فنونها وكنت أتذكر كل ما كتبه نجيب محفوظ وأدقق في وجوه الناس علني أرى السيد أحمد عبد الجواد أو كمال أو ياسين أو رشدي في خان الخليلي أو عباس الحلو أوحميدة في زقاق المدق، وسكت قليلا وقلت في أسف تجولت هنا كثيرا مع صفاء. قال:
- صح .. كيف نسيت أن الثقافة الجماهيرية تقيم سرادق أغان وموسيقى في حديقة الخالدين كل رمضان، وأن إدارتكم هي التي تشرف عليه؟
أدركت أنه يبعدني عن الهم فطاوعته وقلت:
- لقد مررت على المساجد والقصور والأسبلة التاريخية التي هنا كلها. 
وسألته:
- أليس غريبا أن تكون حارة الباطنية حيث يباع الحشيش جوار الأزهر.
قال ضاحكا: 
- تاريخ الحشيش لا أعرفه.. لكن احتمال أنه دخل مصر مع الفاطميين من المغرب والله أعلم! 
ضحكنا. 
أخذنا عمر الذي بدا سعيدا اتسعت ابتسامته ومشينا قليلا. عبرنا شارع الأزهر ودخلنا في شارع الباطنية. قال عمر أن نقف بعيدا بعض الشيئ. كان هناك طابور طويل أفراده لا تقل عن عشرين شخصا، قبل أن أسأل قال سعيد:
- هل ترى الجالس خلف المنضدة وجواره شابان يقفان على جانبيه؟ إنه مصطفي معتوق أكبر تجار الحشيش في الباطنية. 
كان هناك رجل في حوالي الخمسين يرتدي بدلة كاملة زرقاء وكرافتة زرقاء أيضا، يمسك في يده سكينا صغيرا وأمامه لفافات هي قطع كبيرة من الحشيش. من يصل إليه من الواقفين في الطابور الطويل يضع النقود على المنضدة أمامه دون كلام فيضعها هو في درج بالمنضدة ويقطع قطعا من الحشيش، يزيحها مرة للواقف عن يمينه ومرة للواقف عن يساره، فيلف كل منهما الحشيش في ورق سيلوفان يعطيه للمشتري فيمشي في طريقه أو يعود ناحيتنا دون كلام. 
على بعد حوالي مترين منه يجلس ضابط شاب على مقعد يهز ساقه اليمني التي وضعها فوق اليسري ويدخن سيجارة باستمتاع. قال سعيد: 
- الحشيش في رعاية الرئيس المؤمن . تري ماذا سيحدث لو مات الرئيس ؟ 
ضحكت بصوت خفيض. وصل عمر إلى التاجر، قدّم له النقود وعاد إلينا مبتسما يضع الحشيش في جيب بنطلونه. مشى أمامنا صامتا فمشينا خلفه. أكذب لو قلت إني لم أخف للحظات رغم وجود الضابط أخذنا طريقنا إلى منطقة الحمزاوي. كل هذا يأخذني إلي التاريخ. يا للقاهرة التي تحتاج إلى سنوات وسنوات من الفرجة. الألفة والرحة كانت تمشي معنا وسط مجلات الملابس والعطارة. دخل بنا عمر زقاقا بين صفين من البيوت القديمة انتهى إلى باحة صغيرة لكن تبدو واسعة وسط زحام البيوت، رأيت حوالي عشرين جالسين. كل اثنين أو ثلاثة معا، وخمسة جالسين فرادى، رآنا الشاب الذي يرتدي الجينز وبلوفر فوق القميص والذي يمر بينهم حاملا أحجار المعسل والجوزة التقليدية فهتف قائلا "يادي النور يادي النور" ونادى رجلا يرتدي جلبابا ويقف خلف نصبة الشاي والقهوة قائلا: "عمر بيه وصل" ألقى الرجل التحية بيده على عمر وبسرعة جاء الولد إلينا بثلاثة مقاعد خشبية وترابيزة خشبية صغيرة، أعطاه عمر ربع جنيه قائلا وهو يضحك "بتوحشني يا جابر" ثم وضع على الترابيزة لفتي الحشيش الصغيرتين وانتظر أن يأتي الشاب بطاسة عليها عدد كبير من "الأحجار" وعلب من المعسل، بدأ عمر يقطع الحشيش بعد أن مشى عليه بنار الولاعة التي أخرجها من جيبه.
دارت بيننا "الجوزة".. رحنا ندخن وسعيد يقول لي هذا هو العلاج لأحزان مصر ويضحك هو وعمر. 
عمر يفتح الأحاديث في السياسة وأنا غير مقبل عليها ولا على الحشيش لكن بعد الحجر الثالث الذي شاركتهم فيه كسابقيه بدأت أشعر بالراحة والغياب يسري في روحي، كان صوت أم كلثوم يأتي من راديو بالداخل خلف النصبة وهي تغني "شمس الأصيل" كنت أعرف أنها الساعة العاشرة مساء فقلت مازحا:
- شمس الأصيل الآن. متي إذن تغني سهران لوحدي؟!
قال عمر:
- أكيد هؤلاء جالسون من ساعة العصر. 
ضحكنا.. قلت:
- آسف.. هو الحشيش جعلني أنسى أن أم كلثوم ماتت، آسف جدا، لا أعرف كيف فعلت ذلك.
قال سعيد في أسف:
- يبدو أننا نسيناها جميعا الآن، لكنها ستغفر لك لأن ليلة حفلتها كانت مصر كلها في البيوت تحشش.
ضحكنا، لكن سعيد قال:
- هل تعرف الآن وهي في الجنة أننا نسمعها؟ هل للموتي ذاكرة؟
قال عمر:
- لا أحد يعود من هناك ليخبرنا، هل نسيت وأنت الذي أخرجت مسرحية هاملت، هل نسيت مشهد حفار القبور بسرعة هكذا؟ 
كان غيرنا في الغرزة يضحك وغيرنا يدخل في الصمت للحظات، أكثر من شخص جالس وحده خرج وانصرف صامتا،  قلت لأخرج من الأسى الذي عاد يتمدد في روحي وقد ذكرتني هاملت بأوفيليا بصفاء:
- هي وزارة الداخيلة مش هنا ليه؟
ابتسم سعيد وقال عمر بسرعة:
- سؤال في محله. دائما هنا ضابط جالس عند الباب.
ونادى جابر فجاء مسرعا قائلا:
- أمرك يا باشا.
- صحيح لماذا لا يوجد حضرة الضابط الليلة؟
نظر جابر حوله وهمس لنا:
- أمس لم يدخن لا سيجارة ولا حجرا. لكنه اتسطل من الرائحة والدخان. ذهب إلى محل الدهان وأكل دون أن يدري، بعيد عنك أصابه تلبك معوي.
نظرنا إليه مندهشين فقال:
- آه والله بدون ما يحشش، كان حشش أحسن يمكن كان وعي ماذا يأكل!
ضحك سعيد بصوت عالٍ ضحكة قصيرة وابتسم عمر بينما هززت أنا رأي فقال عمر بعد أن انصرف جابر:
- أكيد لا يكذب، الرائحة وحدها هنا تأكّل بلد.
ثم سكت قليلا وقال شاردا:
- هل حقا ماتت أم كلثوم، لا أظن، مثلها لا يموت.
في حوالي الساعة الثانية عشرة انصرفنا. كنا جائعين. اقترح عمر أن نذهب إلى محل الدهان نتعشي كباب. قال سعيد ضاحكا:
- والتلبك؟
ضحكنا ونحن تقريبا نجري في فضاء الشوارع والأزقة التي صارت شبه خالية، في ميدان الحسين كان هناك الكثيرون على المقاهي وضوء الميدان يوسع في الراحة والانسجام. قال عمر:
- لا داعي للكباب الليلة، نأكل حماما عند فرحات ما رأيكم؟ المهم ينتبه كل منا ولا يأكل أكثر من حمامتين.
بينما نجلس عند فرحات في الزقاق الضيق لاحظت الزحام من الجالسين أو المارين يقفون أمام المحلات تبيع الجلابيب البلدية والإيشاربات والصواني النحاسية وتماثيل متنوعة أو يكملون طريقهم إلى خان الخليلي رغم أننا في منتصف الليل، لا ينام الناس في الحسين.
أكلنا وبين لحظة وأخرى يقول سعيد أو عمر "حمامتين بس" فنضحك، قلت أنا ذلك أكثر من مرة. وكان كل منا قد بدأ في الحمامة الثالثة، نضحك ونكرر "حمامتين بس"، وحين دفع عمر الحساب اكتشف أن كلا منا قد أكل أربع حمامات! وقف مندهشا لا يصدق ثم ضحكنا، دفع خمسة عشر جنيها وهو يقول "طيب ليه مش خمس حمامات بالمرة " انصرفنا ضاحكين لنقف في شارع الأزهر، قال عمر:
- لكما عندي مرة كل أسبوع – ثم قال لي – انتبه لموهبتك، كل الأحزان تمر والحياة جديرة بأن تعاش ونحن لا نعيشها إلا مرة واحدة.
ابتسمت فسألني:
- أكيد قرأت رواية "نحن سقينا الفولاذ". أوسترفسكي مؤلفها هو الذي قال هذه العبارة فصارت شعارا للشيوعيين وغيرهم في كل الدنيا. سأترككما.
على عجل أشار إلى تاكسي. وقفنا أنا وسعيد ننظر إلى بعضنا ثم انطلقنا في الضحك، قال سعيد:
- خائف أرجع البيت أنام بعد ما فعلناه. قد يغلبنا النوم دون أن ندري. النوم أخطر شيء بعد الحشيش والأكل. الأكل قد يكبس على نفسك وتموت.
كنت بحاجة إلى هواء أكثر، كان الجو باردا حقا لكني أعشق هذا البرد الخفيف، قلت:
- لنمش حتى نهضم شيئا مما أكلناه.
قال سعيد:
- الحمام أشعل في جسمي النار.
مشينا في شارع الأزهر في اتجاه العتبة. طال الوقت جدا بعد أن بدأنا نمشي، لكني حين نظرت إلى ساعتي الجديدة التي اشتريتها بعد التي أخذوها من في أمن الدولة رأيت الوقت الذي مر ربع ساعة فقط. ظللت أمشي غير منتبه إلى سعيد جواري إلا بين لحظات تطول. لا بد أنه كان مثلي لأنه توقف مرة وتلفت يبحث عني ويسأل "أين أنت؟" ثم يراني جواره.
عبرنا صمت ميدان العتبة، لا أحد في الطرقات غير الأوراق المهملة على الأرض وبقايا يوم من الزحام والبيع والشراء والأكل، مشينا وعبرنا تمثال إبراهيم باشا ثم ضحك سعيد وقال وهو يشير إليه:
- هل تعرف أنه في الخمسينيات كاد جمال عبد الناصر أن يأمر بتسييح نحاس تمثال محمد علي باشا في الإسكندرية وإبراهيم باشا هنا وإسماعيل باشا في الإسكندرية أيضا للقضاء عليى أزمة الفكة!
ضحكت فقال:
- بشاعة، صح، أو حرب إشاعات على عبد الناصر. عبد الناصر مات وأزمة الفكة قائمة!
عشت في الإسكندرية أربع سنوات أيام الجامعة ولم أر تمثال إسماعيل باشا. صدفة فيما بعد وأنا أقرأ في كتاب عن تاريخ الإسكندرية عرفت أنه كان هناك تمثال للخديو إسماعيل فعلا أمام النصب الذي صار اسمه "نصب الجندي المجهول" وأنه انتزع من مكانه ولم يقل الكتاب أين هو الآن.
مشينا قليلا لنعبر شارع 26 يوليو وندخل في شارع قصر النيل فمر أمامنا تاكسي طل من نافذته الخلفية شاب وهتف:
- ماشيين لوحدكم في نص الليل ليه يا أولاد الهبلة، مافيش مرة تنيلوها.
نظرنا إليه مندهشين لكن التاكسي كان قد عبر بعيدا يتجاوز جامع كخيا. كنا سمعنا أيضا أصوات ضحكات نسائية عالية تأتي منه، نظرنا إلى بعضنا نبتسم في دهشة فقال سعيد:
- عنده حق ابن العبيطة. حرام هذا الحمام اللي أكلناه على الفاضي!
تابعنا المشي نضحك مندهشين حائرين. مشينا كثيرا تلك الليلة ولا ندري حتى وصلنا إلى ميدان طلعت حرب فانتبهنا ووقفنا أمامه. قلت:
- الساعة تجاوزت الثانية ونحن ما زلنا نمشي في الاتجاه المخالف لبيتينا. أظن نكتفي بهذا ونأخذ تاكسي إلي بيتي فتأخذ حقيبتك وتكمل بالتاكسي إلي سكنك الجديد. أو تبيت معي الليلة ففي الغرفة سرير آخر.
- ما دمنا جئنا هنا ما رأيك نقف قليلا على كوبري قصر النيل. ربما نجد امرأة وحيدة تقف هناك فنكيد للتافه الذي شتمنا.
- سنقف على الكوبري لأني اشتاق للوقوف على النيل لا لشيء آخر يا سعيد؟
أدركت أنني صرت أكثر وعيا، ها هي صفاء تطل علي فما أكثر ما وقفنا على الكوبري نطل على النيل يطوقها ذراعي. شهران فقط مرا من العام الدراسي الجديد وضاعت صفاء! فليتحمل النيل أحزاني. 
وصلنا إلى الكوبري الخالي. رأينا بخر الماء يصعد من النيل لمسافة قليلة. السفن المضيئة بعيدا لا تزال ساهرة. ونحن ننظر إلى النيل شمالا رأينا على يسارنا أسفله سفينة "علاء الدين" لكن مظلمة، جلست فيها مرتين مع صفاء- أجل مرتين- نفضت رأسي أبعد عنه الذكريات، لن أترك الباب مفتوحا أكثر من ذلك للألم، أن تتذكر كل شيء بالتفصيل يعني أن كل شيء قد ضاع منك! لماذا لا أمسك بالتفاؤل وأفز بما أستطيع من بهجة على الأقل الليلة؟!
قال سعيد ما رأيك أن نترك الكوبري وننزل إلى أسفل نقف قريبا من الماء أو نجلس هناك قليلا؟
المقاعد على الشاطئ أسفل الكوبري تمتد أمامنا واضحة بسبب اللمبات فوق أعمدة الشارع العالي، مشينا ونزلنا إلى المقاعد، ظهرت فجأة فتاتان على الكوبري تقفان مثلما كنا نقف، ربما مكاننا نفسه. قال سعيد:
- هل ترى ما أراه؟
- أجل. 
- ما رأيك أن نصعد مرة أخرى؟
ضحكت قلت:
- أخشى أن نصعد فلا نجدهما ثم نراهما من جديد هنا مكاننا أسفل الكوبري.
ضحك وقال:
- هل هما شبحان مثلا؟ هل تظن ذلك؟
قلت:
- لنقطع الشك باليقين نشير إليهما. 
راح سعيد يحرك ذراعيه عاليا. كانت المفاجاة أنهما اتجهتا إلينا.
قلت لسعيد:
- ماذا ستفعل؟ ألم تقل لي إنك تحب الآن؟
ضحك بصوت عال وقال:
- كنت فاكر نفسي أحب، طلعت بنت عبيطة لا تعرف أى شيء. 
لم أكرر الكلام في الأمر، كانت الفتاتان تقتربان ترتدي كل منهما "تايير" ضيقا. ما كادتا تصلان حتى قالتا هاتفتين:
- كنا نفكر أننا فقط المجانين.
وضحكتا فضحكنا. 
أخذني سعيد بعيدا خطوتين وهمس يسألني:
- معك نقود؟
- معي جنيهان 
- وأنا أيضا، سيدفع كل منا جنيها لمن يجلس معها.
وقال لهما:
- قبل أي شيء ليس معنا غير جنيهين.
نظرت إحدى الفتاتين لزميلتها ثم لنا مستنكرة وقالت:
- هل يبدو أننا "عاهرات"؟
وبدت غاضبة فهتف سعيد:
- آسف جدا، سامحيني، إذن نكتفي بالحديث معكما. 
قالت الأخرى ضاحكة:
- لكننا لا نحب الكلام.
نظر إليّ سعيد مندهشا ثم تقدم ناحيتها وكانت الأقصر، أخذها في حضنه وجلس بها على مقعد قريب. جلست أنا مكاني فجلست الأخرى جواري ووضعت ذراعها على كتفي. وضعت رأسي على صدرها قليلا أشم عطرها وأشعر بدفء جسدها والراحة التي صارت تسري في جسدي ثم رحت أقبلها وراحت تقبلني وأنا أفكر هل هما من بني البشر حقا أم هو حلم بعد ليلة الحشيش؟ سمعتها تقول "ربنا يستر ولا يمر عسكري الآن فيأخذنا بجريمة الفعل الفاضح في الطريق العام"، لكني كنت ذهبت بعيدا عن أي حديث. كم طال بنا الوقت؟ لا أدري. فجأة قال سعيد:
- جنون بجنون ما رأيكم أن ننزل الماء؟ 
هتفت الفتاتان:
- سننزل الماء، معكما حتى النهاية. 
خلعنا ملابسنا كلها والفتاتان تضحكان وتضعان أيديهما علي عيونهما كي لا ترايانا، ثم خلعتا ملابسهما دون الملابس الداخلية التي رفضتا أن تخلعاها مثلما فعلنا، بل أكثر من ذلك طلبتا منا أن ننظر إلى الماء وهما تخلعان ثيابهما، قال سعيد الماء الذي يخرج منه البخر الآن دافئ وليس مثل الجو حولنا، فقفزنا إلى الماء بسرعة وصرنا نغطس ونعلو نرتعش ونتبادل القبل والأحضان فانتهت رعشة البرد وصرنا نضحك ونتسابق ولا أعرف أيضا كم مضى من الوقت حتي سمعنا صوت آذان الفجر. قلت:
- يكفي هذا اليوم، لا بد أن نتقابل مرة أخرى.
خرجنا من الماء نضحك وأنا لا أصدق ولا أعرف الواقع من الخيال، لا أعرف ماذا جرى لأجد نفسي وحدي مع سعيد والفتاتان على الشاطئ تركبان تاكسي ظهر فجاة كأنه على موعد معهما وانطلق بهما دون كلام. كيف غفلنا عنهما حقا، وكم من اللحظات كانت الغفلة؟ أسئلة لم نجد إجابة عنها. وقفنا صامتين مصدومين ثم انطلقنا نضحك. لقد ظهرتا أمامنا جوار التاكسي في ملابسهما كاملة ولا يبدو على شعرهما أنه تعرض للماء، والمدهش أن أغنية ديميس روسوس" Good bY my love good by " كانت تنطلق من التاكسي عالية، وسألني سعيد:
- هل رأيت سائقا يقود التاكسي؟
- طبعا؟
- لم أر أحدا فكيف رأيته أنت؟
قلت في حيرة:
- بصراحة لا أعرف. 
ارتدينا ملابسنا في صمت وذهول ولم نجد حذاء أي منا. كانت بالفعل كل منهما وهي تدخل التاكسي تحمل حذاء في يدها وإحداهما أشارت إلينا من النافذة بواحد منهما والتاكسسي يتحرك مسرعا:
قال سعيد ضاحكا وهو ينظر إلي قدميه:
- هل تأخذ عرائس البحر أحذية الرجال؟
لم أجد ما أرد به، مشينا حافيين، الأرض تحتنا خشنة بارد أسفلتها في الشارع وعلى كوبري قصر النيل الذي مشينا حفاة على رصيفه وكان أكثر نعومة، نطمع أن نجد تاكسي يقلنا إلى بيتينا ونور الصبح ينزل فوق الدنيا وسعيد يقول لي "خلق الإنسان حافيا، هذا أمر مؤكد .. والإنسان صانع الأحذية".