كانت آخر دورة تدريبية لي منذ أسابيع في نقابة الصحفيين، تحت عنوان "حول فنون التغطية الصحفية للتعليم الفني والتدريب المهني"؛ الأمر يستحق الأهمية ولجنة التدريب بالنقابة، وعلى رأسها الزميل أيمن عبد المجيد، بذلوا جهدا كبيرا ليخرج المشاركون بأكبر استفادة ممكنة من هذه النخبة التي تحاضر من أساتذة كبار كشفوا في كثيرا من مواطن الضعف في الكتابة الصحفية على وجه العموم، الأمر الذي تكشف منه أن مواقع التواصل الاجتماعي مزقت أواصل العمل الصحفي، وأسقطت اللغة الصحفية في هوة عميقة لزم الخروج منها، ولست أبالغ، إعادة تدريب كل شباب الصحفيين.
وحتى لا أطيل في هذا الأمر أعود إلى موضوع الدورة فنون التغطية الصحفية للتعليم الفني والتدريب المهني، عنوان عريض ربما حتى لا يعيه المحرر المتخصص في هذا المجال، والذي منذ سنوات اقتصر دوره على نشر بيانات الوزارة، دون محاولة جاهدة لفك طلاسم هذا الأمر، وفي الحقيقة السؤال الذي تبادر إلى ذهني في البداية هل يوجد لدينا تعليم فني في مصر؟ وبعد بحث وتدقيق وجدت أنه ككل شيء لدينا لكن على الورق.. فقط على الورق، ربما كان في يوم من الأيام موجود وبقوة ولكن عوامل كثيرة أسهمت في جعله جثة هامدة لا روح فيها منها نظرة المجتمع إلى خريجي مدارسه، وعدم وجود قنوات له في سوق العمل، وحالة الركود التي أصابت حراك الوطن لسنوات فتحولنا إلى مجتمع مستهلك يبحث عن الرزق السهل إما بعبور البحار وراء الدولار، أو مواكبة هوجة "التوكتوك"، التي جعلت الفنيين يرمون أدواتهم ويبحثون عن مصدر رزق آخر، ناهيك عن تراجع دور المدرسة والمعلم وشراء الدرجات بالنقود.
قبل عقود كنت إذا دخلت ورشة تجد صاحبها "صنايعي" يناديه الناس ياباشمهندس وهو يعلق على الجدران شهادة دبلوم قسم خراطة أو حدادة أو تبريد وتكييف أو كهرباء، كان يحكي عن دراسته وتدريبه والفرص التي تلقاها من عدد من المصانع لكنه فضل أن يكون له ورشة خاصة، كان هناك مجتمع يتحسس الخطى نحو مشروع صناعي كبير، داعمه الأساسي "الإيد الشغالة"، ثم جاءت فترة تحريف المسميات، فترة الانفتاح التي لم تكن لها ضوابط تحكمها، فظهر "بلية" ذلك الصبي الصغير الذي غزا الورش والمصانع بأجور زهيدة، فسحب البساط من ورش التعليم الفني واضعا على الجدران بدلا من شهادة الدبلوم الفني، مقولة "العلم في الراس مش في الكراس"، وككل الأشياء التي تنمو بلا تخطيط دخلت الفهلوة على عصب التدريب المهني، فقد صبغته، في هذه الأعوام حكم بلية وتحكم في مجريات الأمور، فبات يعمل في الورشة ويتغيب عن المدرسة، وينجح في العملي ويرفع أيام الغياب بدفع "الجزية" للمدرس، الذي وجد في ذلك مكسبين أولهما مادي يساعده في مجابهة الحياة أمام زيادة المتطلبات، والآخر راحة نفسية فقد تغيرت الأخلاق ولم يعد المدرس محل تقدير بعد أن انتشرت لغة "المطاوي والجنازير"، لكن بعد أن أسس "بلية" تلك الإمبراطورية قرر فجأة "تكبير الدماغ" والاختفاء، فغرور الصنعة جذبه لكن إلى أين؟ دعونا نكمل الحكاية في المقال القادم.