تابع أحدث الأخبار
عبر تطبيق
توقفنا فى المقال السابق عند الدور المهم والخطير الذى يجب أن تلعبه الدراما التليفزيونية فى عملية إعادة بناء الإنسان المصري، ذلك الدور الذى قامت به وزارة الإعلام قبل إلغائها على أكمل وجه طوال سنوات تصل إلى الخمسين عاما، حيث تمكنت من تحويل الدراما إلى وجبة دسمة تقدم يوميا للمواطنين عبر شاشة التليفزيون، فتجتمع الأسرة حول هذه الشاشة السحرية متابعة ومتفاعلة مع الأعمال الدرامية التى كانت تحث الناس على الفضيلة وتحذرهم من الرذيلة وتدعو للقيم الأصيلة، ولكل ما هو خير ونبذ كل ما هو شر، إلى جانب الأعمال التاريخية والدينية التى كانت تحكى سير الأبطال وقصص الأنبياء والأتقياء، فتغرس بداخلنا الشجاعة وحب الوطن والخوف من الله، وخلال هذه الرحلة الطويلة من العطاء الدرامى المميز لوزارة الإعلام المصرية، التى كانت من إحدى وزارت السيادة لم يدخل المكسب المادى يوما فى الحسبان، فالمسلسل يتم إنتاجه بغرض عرضه للمصريين كنوع من الثقافة والتنوير، وحينما يتم تسويقه للبلاد العربية الشقيقة، فإنما يحدث ذلك لفرض ثقافتنا ونشرها، فهذه هى القوة الناعمة لمصر، وكما استطاعت الولايات المتحدة فرض ثقافتها على العالم من خلال السينما استطعنا نحن طوال عدة عقود فرض ثقافتنا على المجتمعات العربية عن طريق الدراما التليفزيونية، ولضمان أن يكون هذا المسلسل لائقا بالأسرة المصرية فقد وضعت الوزارة معايير ولوائح جديدة وقامت بإنشاء رقابة خاصة بها، ليقتصر دور جهاز الرقابة على المصنفات الفنية التابع لوزارة الثقافة على إجازة الأعمال السينمائية والمسرحية والأغاني، أما ما ينتجه التليفزيون فقد أصبح له رقابة خاصة أكثر تشددا باعتبار أن الأعمال التليفزيونية تدخل البيوت دون إذن، وكان النص التليفزيونى يمر بمراحل عديدة قبل أن يتم إنتاجه، فبعد إجازته رقابيًا كان يعرض على لجنة عليا مكونة من نقاد كبار وأساتذة جامعة، وكان حكمهم على النص يأتى وفق الخطة التى وضعها مجلس الأمناء، وهو المجلس الذى تحدثنا عنه فى المقال السابق، والذى كان يضم خيرة عقول مصر من مفكرين ورؤساء جامعات وشيوخ وقساوسة، وهؤلاء كانوا يضعون خطة الإنتاج وفق التوصيات التى تأتيهم من المجالس القومية المتخصصة وأجهزة الدولة المعنية، فمثلا إذا زادت فى المجتمع حالات الطلاق يتم التأكيد على ضرورة أن تتناول الدراما خلال هذا العام تلك القضية لمناقشتها والوصول إلى ضرورة الحد من هذه الظاهرة، وهكذا كان للدراما صاحب، ولم يكن الأمر يتم بصورة عشوائية كما يحدث الآن، والحقيقة أننى لن أمتنع عن الدعاء ما حييت على ذلك الذى اقترح إلغاء وزارة الإعلام، فهى وزارة كانت تحارب بسلاح الفن والفكر والإبداع، وهل يمكن للمرء أن يتجاهل دورها فى مجابهة إرهاب الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، حيث تصدت له بالبرامج الحوارية مع المتطرفين أنفسهم، وكان يدير هذا الحوار الإعلامى الراحل حلمى البلك، وكانت هذه البرامج مقدمة للمراجعات الفكرية التى حدثت من قادة هذه الجماعات المتطرفة فيما بعد، كما تصدت الوزارة أيضا لهذا الفكر المتطرف بمسلسل شغل الرأى العام وناقش القضية من مختلف جوانبها، وهو مسلسل العائلة للكاتب الكبير وحيد حامد، وقد وضعت قطاعات الإنتاج التابعة للوزارة لوائح مالية صارمة، أذكر منها أن أجر النجم كان لا يتعدى الخمسة آلاف جنيه فى الحلقة الواحدة، وظل الأمر هكذا حتى انطلقت القنوات الفضائية عقب إطلاق القمر الصناعى المصري «نايل سات» ولم تعد هذه الجهات الإنتاجية قادرة على تلبية احتياجات القنوات العديدة من مسلسلات، فكم الأستوديوهات والمعدات لا يتناسب مع عدد الساعات الدرامية المطلوبة، حينها لجأت الوزارة إلى فكرة المنتج المنفذ، ولكن سرعان ما تبين أن هذه الفكرة قد فتحت بابا للفساد من ناحية ولضعف المستوى الفنى من ناحية أخرى، فالمنتج المنفذ كان يحصل من التليفزيون على حوالى مائة ألف جنيه فى الساعة الدرامية فيقوم بصرف نصفها فقط، دون مراعاة للجودة المطلوبة، اللهم إلا قلة من كبار المنتجين الذين كانوا يخشون على تاريخهم وسيرتهم، فتم تعديل الفكرة إلى المنتج المشارك، لكى يتحمل المنتج الخاص بعض الأعباء الإنتاجية ويشعر بامتلاكه حصة فى هذا العمل، وبالتالى يحرص على جودته، ونجحت الفكرة إلى حد ما، ولكن مع بداية ظهور القنوات الفضائية الخاصة وجد المنتج منفذا جديدا غير مقيد باللوائح، مما أثر على الإنتاج الحكومى الذى بدأ يضمحل فى مواجهة الإنتاج الخاص، لاسيما بعدما تمكن الأخير من استقطاب النجوم الكبار بأرقام خرافية، وتواكب ذلك مع أحداث 2011 التى جاءت لتكتب شهادة وفاة الإنتاج الدرامى الحكومي، فمنذ ذلك التاريخ توقف الإنتاج الحكومى تماما، وباتت شاشة التليفزيون المصرى تعانى أزمة كبيرة أمام القنوات الأخرى التى استأثرت بمسلسلات النجوم ودخلت صراعا على كعكة الإعلانات، وفى ظنى أن بناء الإنسان المصرى يحتاج لكثير من الدراما الهادفة، لذا فلابد من إعادة منظومة الإعلام المصرى مرة أخرى لتعود للعمل بنفس ما كانت عليه فى الماضي، ولست أبالغ إذا قلت إن دور الدراما أكبر بكثير وأخطر من دور التعليم والأزهر والكنيسة ولهذا لابد للحكومة وللرئيس أن يتدخل شخصيا فى هذا الشأن ليعود ماسبيرو منارة لشعبنا، فالمشكلات الإدارية التى يعانى منها هذا المبنى العتيق لا يمكن حلها إلا بقرارات جمهورية، فإذا كانت ثمة رغبة فى إعادة بناء الإنسان المصرى فلابد من إصلاح ماسبيرو.