الكلمات التى نعى بها رئيس مجلس النواب، الدكتور علي عبدالعال، العقيد ساطع النعمانى، نائب مأمور قسم بولاق الدكرور، وزملاءه من شهداء الواجب جاءت مفعمة بمعانى الوفاء والعرفان بالجميل، ومؤكدة أن جميع فئات المصريين سيواصلون الحرب على الإرهاب والإرهابيين، وأن دماء النعمانى ورفقائه لن تذهب سدى.
وفى لفتة إنسانية لم تخلُ من الدلالات السياسية وقف نواب الأمة مع رئيس البرلمان دقيقة حدادًا على أرواح شهدائها، وتخليدًا لذكراهم وترسيخًا لقيمة تكريم الشهيد تم تسجيل النعى فى المضابط الرسمية للبرلمان المصري.
ما نطق به الدكتور عبدالعال لا ينتمى لذلك النوع من البيانات الروتينية، كما أن الوقوف دقيقة حدادًا وتدوين النعى فى المضابط الرسمية لا يدخل ضمن الإجراءات البروتوكولية، ولا ينبغى التعامل معها على هذا النحو، فأرواح زهرة شباب الوطن صعدت إلى بارئها وهى تجاهد من أخذوا على عاتقهم ترجمة فتاوى الدم وفقه التكفير إلى قنابل تفجر الحاضر والمستقبل.
قيم الوفاء والعرفان بالجميل أسمى من أن تحبس فى بضع كلمات ودقيقة حدادًا وسجل تدون فيه وقائع جلسة أو اجتماع، وأخشى ما أخشاه أن نختصر حتى معنى الثأر لدماء شهدائنا فى الضربات العسكرية والأمنية التى توجه ضد فلول الإرهاب.
فى أغلب أحاديثه وقبل استشهاده كان العقيد ساطع النعمانى يؤكد ضرورة مواجهة العقل الواقف خلف البندقية التى تطلق رصاصات الغدر، لأنه من يحرض صاحبه على حمل السلاح فى مواجهة الدولة والمجتمع.
النعمانى ورفقاؤه على درب الشهادة والنصر واجهوا ويواجهون أعداء الوطن كأسود ضارية أولو العزم والبأس الشديد رابضون فى كل مكان من أرض المحروسة يقاتلون بلا هوادة يؤدون واجبهم فماذا قدمنا نحن؟!
لن يرضى روح الشهيد تدوين اسم صاحبها فى لوحة الشرف كنوع من الوفاء، ولن تقبل أن يكون الثأر لها بقتل كل الإرهابيين، فدماؤهم جميعا لا تكفي لسداد دماء الجسد الذى سكنته.
تجفيف منابع الإرهاب والتطرف فى وديان الفكر القديم والتراث الجامد هو ما يرضى أرواح شهدائنا ويجعلها فرحة ساكنة فى مقامها الجديد.
وإذا كان رئيس مجلس النواب يعنى حقًا ما قاله، عليه أن يعمل مجتهدًا ليقوم برلمان الأمة بدوره فى حربنا المقدسة على الإرهاب فكرًا ومنهجًا.
وما فى جعبة مجلس النواب كثير لا ينفد وفقًا لدوره التشريعى والرقابى، وليس أقل من أن يعيد النظر فى موقفه من مشروع قانون تنظيم الأزهر الذى تقدم به النائب محمد أبوحامد بداية صيف ٢٠١٧، وهو المشروع الذى حظى بدعم نحو ٢٥٠ نائبًا فى بداية طرحه لكن هذا العدد سرعان ما تقلص على إثر حملة معادية شنت ضده بزعم أنه ينص على عزل شيخ الأزهر، وطبقًا لمواد مشروع القانون ليس فيه ما ينص على عزل الإمام الأكبر، وإنما فقط يحدد ولايته بفترتين تمتد كل منهما إلى ٦ سنوات، ومع ذلك ليس من مقدس سوى الكتب السماوية ومثل هذه المواد الخلافية تخضع للمناقشة والأخذ والرد.
أهم ما فى مشروع القانون أنه وضع نصًا يلزم مؤسسة الأزهر بتجديد الخطاب الدينى، وتنقية التراث من شوائب فتاوى الدم وفقه العنف والتطرف، وما صار قديمًا لا يصلح لزماننا، خاصة أنه يعبر عن رؤية بشر مثلنا.
وقد حوى مشروع قانون تنظيم الأزهر نصوصًا تُعد فى ذاتها تجديدًا للخطاب الدينى الذى لا يعترف بالمرأه كإنسان كامل الأهلية منها نصه على أن تضم هيئة كبار العلماء ٤ نساء عالمات من بين ٤٠ عالمًا و١٠ من المتخصصين فى شتى المجالات العلمية والثقافية والمعرفية، بينهم امرأتان.
لا أظن أن أحدًا يختلف كثيرًا حول نصوص من هذا النوع، كما لا أتصور أن إنسانًا مسلمًا عاقلاً يعتقد أن ثمة بشريًا على الأرض لا يمكن محاسبته إن هو أخطأ، فمن النصوص التى أثارت جدلاً واسعًا عندما طرح مشروع القانون مادة نصت على محاسبة شيخ الأزهر من قبل ٧ من أعضاء هيئة كبار العلماء، ولها أن توصى باللوم أو الإنذار أو عدم الصلاحية، غير أن تنفيذ أى من تلك الأمور يشترط موافقة ثلثى أعضاء هيئة كبار العلماء.
والسؤال هنا هل يمكن تصور معصوم من الخطأ غير الرسل والأنبياء؟!.
ومع ذلك كل هذه الأمور ستخضع للنقاش والمداولة تحت ضغط رقابة شعبية دقيقة لما يتمتع به الأزهر وشيخه إمامه الأكبر من مكانة كبيرة فى نفوس المصريين فمما نخاف إذًا، أليس الأزهر أحد مؤسسات الدولة الخاضعة للدستور والقانون أم لها قداسة أو حصانة إلهية؟! ألم يكن من وضع البناء الهيكلى للمؤسسة العريقة بشرًا يجوز تعديل أو تغيير اجتهاده؟!
إعادة هيكلة مؤسسة الأزهر الشريف وإلزامها بتجديد الخطاب الدينى وتنقيح التراث أولى خطواتنا فى ميدان المواجهة مع الإرهاب والثأر لدماء شهدائنا، وخطوة كهذه ستحول دون اصطناع أزمة أو إشعال فتنة كالتى نرى شرارها يتناثر هذه الأيام بادعاء وجود معسكر فى الدولة يريد إلغاء السنة النبوية الشريفة، وبوضوح أكثر ما قاله الرئيس عبدالفتاح السيسى بهذا الصدد أثناء الاحتفال بذكرى المولد النبوى كان على سبيل الاستفهام عندما تساءل عن حجم الإساءة للإسلام وسمعة المسلمين التى تسبب فيها من كانوا يدعوننا لترك السنة والاكتفاء بالقرآن مقارنة بالذين قدموا للعالم فهمًا مغلوطًا للدين وفقهًا قديمًا لم يعد صالحًا.
الرئيس ليس فقيهًا، ولا عالم دين لكنه يدرك أن مشروع بناء الدولة المصرية المدنية الحديثة لن يكتب له النجاح والاستمرار بدون إعادة النظر فى التراث فى ظل هيمنة خطاب بات عاجزًا عن الحفاظ على قيم الحق والخير والجمال، لذلك دعى المختصين والمثقفين إلى القيام بهذه العملية من أجل إبداع فقه معاصر على قاعدة «هم رجال ونحن رجال».
وقبل أن يشرع فى الاستجابة إلى مبادرة الرئيس لتجديد الخطاب الدينى من واجب الأزهر مراجعة الفتاوى والآراء التى قال بها علماء ورجال محسوبون عليه وأحلت قتل المفكر فرج فودة، وقضت بتكفير المجدد د.نصر حامد أبوزيد وفرقت بينه وبين زوجته ليهرب بعيدا ويموت غريبًا، وتكفر المسيحيين المصريين، حينها سينخرط المثقفون والباحثون الجادون مع علماء الأزهر المستنيرين وهم كُثر فى أكبر عملية لإنقاذ الإسلام من الضياع وإعادة تقديمه إلى العالم بقيمه الحقيقية.