منذ بداية ٢٠١٤، شهدت أوكرانيا احتجاجات واسعة، سميت باحتجاجات الميدان الأوروبي، نتج عنها سقوط الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، وانقسمت البلاد إلى قسم موالٍ للاتحاد الأوروبي، وقسم موالٍ لروسيا، الموالون لروسيا احتجوا على سقوط الرئيس يانوكوفيتش -الذى لجأ لروسيا- وتظاهروا ضد السلطة الجديدة، وتكونت احتجاجات عرفت باسم أزمة القرم، والتى نتج عنها استفتاء القرم عام ٢٠١٤، والذى بدوره أعلن قيام جمهورية القرم، والتى انضمت إلى روسيا لاحقًا، وكذلك استفتاء «دونيتسك ولوجانسك»، اللذان سميا باستفتاء «حالة دونباس».
كل تلك الصراعات السياسية خلقت حالة من التوتر أدى إلى نزاع مسلح فى منطقة دونباس شرقى أوكرانيا بين القوات الانفصالية الموالية لروسيا والحكومة الأوكرانية المدعومة من الاتحاد الأوروبي؛ إنه صراع شرير فى مكان لا تزال تشتم فيه رائحة الحرب العالمية الثانية، والولاءات القبلية المتعلقة بروسيا التى أنقذت أوكرانيا من ألمانيا النازية.
من وسط هذه الصراعات والتحالفات غير المشروعة استطاع المخرج الأوكرانى سيرجى لوزنيتسا نسج خيوط سيناريو فيلمه الجديد «Donbass» بدقة وعناية فائقة، ففى دونباس؛ حيث تدور أحداث الفيلم يسيطر الرعب والعنف والبيروقراطية، فالوطنية هنا تتغذى على هيستيريا الحرب الخالدة والدعاية السياسية وانتشار الأخبار الكاذبة هى حقيقة مجردة، ففى عالم نوفوروسيا لا تسمى الأشياء بأسمائها، هنا الحرب تعنى «سلام» والكراهية تسمى «حب».
يتناول الفيلم الذى جاء عرضه الأول فى مهرجان كان السينمائى فى مايو الماضى، وحصد جائزة الإخراج بقسم «نظرة ما»، ويشارك هذا العام فى المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائى الدولي، أثار الدعاية السياسية والتلاعب بالحقيقة فى انحطاط المجتمع، عقب الاحتجاجات التى طالت شرقى أوكرانيا وخلفت صدعا كبيرا لا يقوى أحد على استيعابه.
ينقسم «Donbass» بسهولة إلى ١٣ مشهدًا، يروى خلالها لوزنيتسا الطبيعة المدمرة للنزاع بين القوميين الأوكرانيين ضد مؤيدى جمهورية دونيتسك الشعبية فى روسيا فى شرق أوكرانيا، وأثر سنوات من الخلافات العميقة على الجانبين، وبغض النظر عن التماسك الموضوعى لحبكة الفيلم الذى لا لبس فيه، فإن هيكله التدريجى وتسلسل مشاهده يعنى أن المشاهدين سيشعرون بالقسوة والخوف مع كل مشهد متتابع.
أحداث الفيلم تبدأ داخل عربة تجلس فيها مجموعة من الممثلين الذين يتم استخدامهم فى الدعاية السياسية، من خلال بث أخبار مفبركة أمام شاشات التليفزيون، مقابل أجر مادي، يتبين لك من خلاله طبيعة ذلك المجتمع الذى أنت بصدده، فالواقع هو سلعة عديمة الفائدة، تكمن قيمتها الوحيدة فى الكيفية التى يمكن بها إعادة إنتاجها وتعبئتها.
البطل الحقيقى هنا ليس شخصا ما بشريا، إنما ذلك الوضع المؤلم واللحظات القاسية التى يعيشها سكان منطقة دونباس، التى تفتقر إلى البنية التحتية الأساسية والممزقة نتيجة حدة الصراع هناك، فتلك الحافلة العائدة إلى القطاع الشرقى المنكوب نرى داخلها مجموعة من الوجوه البائسة التى طحنتها الحرب وتتطلع للعودة إلى منازلها المنكوبة، ولكنها تقع فريسة للآلة العسكرية المدمرة التى تتغذى على خيرة أبنائها متسترة خلف قناع الوطنية.
وعلى الرغم من مرور أكثر من ٦ عقود على الحرب العالمية الثانية، فإن مخلفات العنصرية والتحيز لا تزال تسكن العقول، وهو ما تجلى فى مشهد الصحفى الألمانى الذى واجه الأمرين خلال تغطيته الصحفية بمناطق الصراع وكم السخرية التى تعرض لها من جانب الموالين لروسيا.
قضية التلاعب بالواقع سيطرت على عدد من مشاهد الفيلم؛ حيث تقع إحدى سيدات الأعمال فريسة لإحدى الصحف التى اتهمتها بالحصول على رشوة ما دفعها للتوجه إلى مجلس البلدية وسكب القذارة فوق رأس رئيس المجلس، من هناك نقفز إلى أحد مستشفيات الولادة؛ حيث يقف أحد أعضاء مجلس النواب ويوهم العاملين فى المستشفى بوجود مخزون من الطعام والأدوية، التى من الواضح أنه تم وضعها هناك على شكل إمدادات..
المشاهد الأخيرة فى الفيلم هى الأكثر وحشية؛ فنرى سيميون يذهب إلى مقر قيادة الجيش عندما تم إخباره بأن سيارته المفقودة قد تم العثور عليها، ليجد نفسه مرغما على تسليم السيارة فور وصوله باسم الوطنية. والمشهد الأكثر إزعاجًا هو مشهد رجل موالٍ للحكومة الأوكرانية، مربوط بأحد أعمدة الإنارة العمومية ويمارس عليه كل أشكال القهر من قبل الغوغاء المتنامية، لنعود إلى مقطورة المكياج التى بدأنا من خلالها الفيلم من أجل خاتمة مروعة وباردة.
إن الفساد والإذلال هما القوة المسيطرة على دونباس، مما أدى إلى صورة لاذعة للمجتمع الذى لا يختلف كثيرا عن المجتمعات البربرية، فالعلاقات الإنسانية دمرتها الأنانية، وأصبح التفكك سلاحا أكثر فتكا من المدافع الرشاشة.