الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

العلم والإيديولوجيا (2)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
استخدم «كارل ماركس» الإيديولوجيا بمعنى الوعى الزائف، فالإيديولوجيا هى تشويه الحقائق وتزييفها بقصد تبرير موقف الطبقة الحاكمة، وقد أطلق عليها «ماركس» عبارة «الوعى الزائف». وكان أساس هذا التعبير النقدى لـ «الإيديولوجيا»، الرغبة فى تفنيد نظرية «هيجل» المثالية، التى ترى أن البشر ما هم إلا أدوات فى أيدى التاريخ، يقومون بأدوار عُهِدَت إليهم من قِبَل قوى مستعصية على الإدراك. والفيلسوف وحده - فى رأى «هيجل» – هو القادر على أن يفهم وقائع العالَـم على حقيقتها. وإن كان من الضرورى توضيح أن هذا ليس معناه أن كل وعى زائف إيديولوجيًا، إذ من الممكن أن يكون له أكثر من سبب، كنقص المعلومات أو عدم القدرة على الملاحظة الكافية للحكم على الظاهرة. ولكن الإيديولوجيا هى الوعى الزائف الناجم عن التكوين الطبقى للمجتمع، والذى يؤدى إلى ستر التناقضات الطبقية، وبالتالى يساعد على إمكانية استمرار وضع الاستغلال، ولا يتم ذلك بشكل واعٍ، أى ليس من تدبير بعض الأشخاص بغرض تبرير أوضاع طبقية معينة فى الأساس، وإن كان من الممكن أن يحدث ذلك فى مراحل متقدمة فى المجتمع الطبقي. وعلى هذا؛ فإن التشويه الإيديولوجى يمكن أن يتسلل إلى كافة أوجه النشاط المعرفى التى تنتج من التقسيم الطبقى أو تتأثر به، ويتعين علينا أن نقول إن أشكال المعرفة هذه ليست كلها إيديولوجيا، بل يمكن أن نجد ضمنها نظريات وأفكارًا علمية. إلا أنه فى نصوص أخرى اعتبر الإيديولوجيا هى مكونات البناء الفوقي، وهذا يعطيها معنى مختلفًا إذ يساوى بين البناء الفوقى والإيديولوجيا، مما يجعلنا نعتقد أن كل البناء الفوقى هو وعى زائف، وهذا يتناقض مع الفهم الأول الذى يمكن استنتاجه من أغلب كتابات «ماركس»، ولا سيما فى الفترة الأخيرة من حياته، إذ إنه على سبيل المثال، يرى فى علم الاقتصاد السياسى البرجوازى جوانب علمية، وجوانب أخرى إيديولوجية. 
ويرى «ماركس» أن دور العلم هو كشف التشويه الإيديولوجى وليس القضاء عليه، لأن القضاء عليه يقتضى تغيير الواقع، وكما يقول؛ فإن الإنسان لا يستطيع أن يحل فى فكره التناقضات التى لا يمكنه حلها فى الواقع. وقد اعتبر اكتشافاته فى مجالات الفلسفة والاقتصاد ونظريته فى التاريخ علمًا يكشف التناقضات فى المجتمع الرأسمالي، وأنه يتعين بناءً على هذا العلم العمل على القضاء على المجتمع الطبقي، وبالتالى القضاء على التناقضات التى تؤدى إلى ظهور الإيديولوجيا، وهكذا تكون نهاية الإيديولوجيا. وبعد «ماركس» ظهر «لينين» وكان مفهومه للإيديولوجيا هو نقيض مفهوم «ماركس» لها، ففى الوقت الذى أعطاها فيه «ماركس» معنى معرفيًا سلبيًا؛ فإن «لينين» اعتبر الإيديولوجيا هى مجموع أشكال المعرفة والنظريات التى تنتجها طبقة معينة للتعبير عن مصالحها، وبالتالى فكما أن هناك إيديولوجية برجوازية، فإن هناك أيضًا إيديولوجيا بروليتارية، وبذلك ارتبطت الإيديولوجيا بالطبقة بصرف النظر عن تقييمها المعرفى. 
وفى مقدمة من عرضوا للمفهوم الماركسى للإيديولوجيا «كارل مانهايم» (Mannheim)، الذى كان من أقطاب علم الاجتماع فى ألمانيا الذين تأثروا بنظريات المفكر الألمانى «ماكس فيبر». فكان اعتراض «مانهايم» على نظرية الماركسيين أنها لا تميز بين الإيديولوجيا الخاصة بالفرد، التى ترى أن كل الأفكار التى تختلف عنها مجرد أوهام أو أباطيل، والإيديولوجيا «الشاملة» الخاصة بزمن ما أو جماعة ما؛ وهذا هو المعنى الذى يدخل فى مفهوم روح العصر. على أن النوعين من الإيديولوجيا يشتركان – فى رأيه – فى كونهما رهن الظروف الاجتماعية لكل فرد ولكل جماعة، الأمر الذى يجعل من الصعب تحديد مضمون الإيديولوجيا فى وقت معين من الزمن. والتفرقة الأخرى التى أجراها «مانهايم» هى بين الإيديولوجيا واليوتوبيا (أو مفهوم المجتمع المثالي). فالإيديولوجيا – حسب تعريفه – نظام فكرى يمكن أن يتعايش مع الحالة الراهنة فى المجتمع. أما اليوتوبيا فهى دائمًا فى معارضة واضحة للحالة الراهنة. 
وفى عام 1936، ظهر كتاب «الإيديولوجيا واليوتوبيا» لكارل مانهايم، يفرق «مانهايم» فى هذا الكتاب بين العلوم الطبيعية وأشكال المعرفة الإنسانية الأخرى، وينظر إلى العلوم الطبيعية بوصفها علومًا دقيقة محكمة لا تتأثر من حيث محتواها المعرفى بالظروف الحضارية والاجتماعية، أى ليس للزمان أو المكان دور فى المحتوى المعرفى للعلوم الطبيعية. فى حين أن باقى أشكال المعرفة يتأثر محتواه المعرفى بالظروف والأوضاع الحضارية والاجتماعية، فضلًا عن تأثير هذه العوامل على النشأة والنمو، ومن هذه النقطة الأخيرة؛ فإن العلوم الطبيعية لا تختلف عن باقى أشكال المعرفة. 
ولعل «كارل مانهايم» هو أول من تجاوز المفهوم الذى طرحه «ماركس» للإيديولوجية، عندما تحدث «ماركس» عن الإيديولوجيا كقناع للطبقة السائدة؛ حيث اعتقد «مانهايم» أن التناقض بين الفكر والمعرفة وبين الأوضاع الاجتماعية التاريخية ليس محصورًا فى طبقة بذاتها، ولا فى مرحلة من مراحل التاريخ المختلفة، إنما يتعدى ذلك إلى الجماعات الإنسانية برمتها، مما أثار- من جديد - البعد النسبى للمعرفة متجليًا بإيديولوجية الفرد، بعد أن كان ذلك محصورًا بإيديولوجية الجماعات. وفى هذا السياق نستطيع أن نلج إلى الإشكالية الإبستمولوجية للإيديولوجيا كما طرحها «كارل مانهايم»، وهنا نأتى إلى تعريفه للمفهوم. يعترف «كارل مانهايم» بأن لفظة الإيديولوجيا ترتبط فى معظم أذهان الناس بالماركسية، وتتحدد ردود فعلهم تجاهها إلى حد كبير بهذا الارتباط. ورغم أنه يقر بأن الماركسية قد أسهمت بالعرض الأصلى للمشكلة، ويقصد فى هذا المجال الإيديولوجيا كقناع، فإنه يذكر بأن الكلمة ومعانيها أبعد غورًا فى التاريخ المعرفى من الماركسية، وأنها منذ الماركسية قد أخذت مفاهيم وأشكالًا وطباعًا مختلفة عما عرفته فى الماركسية، مفضلًا التمييز بين لفظة الإيديولوجية بالمعنى الجزئى وبين معناها الكلي. فالمعنى الجزئى يكون هو المقصود ضمنًا عندما تدل الكلمة على أننا نتخذ موقفًا متشككًا تجاه الأفكار والتصورات التى يتقدم بها خصمنا، إذ نعتبرها تمويهات واعية بدرجات مختلفة لإخفاء الوضع الحقيقي، وهى تحريفات تتراوح ما بين الخداع المتعمد للآخرين أو خداع النفس، والتمويهات شبه المقصودة، فالأكاذيب المقصودة.