الخميس 21 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

صناعة الجوع

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يُحكى أنه فى عهد الخليفة الأموي، هشام بن عبدالملك تعاقبت على الناس مدة أمسكت فيها السماء عن المطر فساءت أحوال الناس، فتوجه أهل البيداء إلى الخليفة يطلبون منه العون، فاستقبلهم ابن عبدالملك، وكان أحدهم قد اصطحب ولده معه. فوثب الغُلام واقفا بين يدى الخليفة قائلا: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى إذا أعطى عبده قلبًا حافظًا ولسانًا لافظًا فقد أعطاه الخير كله، وإن للكلام نشرًا وطيًا، ولا يُعرف طيه إلا بنشره فإن أذن لى أمير المؤمنين أن أنشره نشرته إن شاء الله. فطرب هشام بن عبدالملك من الغلام لحلاوة بيانه؛ فقال له على الفور: انشره لله درك.
فقال الغلام: يا أمير المؤمنين.. لقد تعاقبت علينا سنون ثلاث. سنة أذابت الشحم، وسنة أكلت اللحم، وسنة دقت العظم.. وفى بيوت أموالكم فضول مال؛ فإن كانت للمسلمين فلماذا تمنعونها عنهم، وإن كانت لله ففرقوها على عباده، وإن كانت لكم فتصدقوا بها عليهم؛ فإن الله يحب المتصدقين.
فعجب هشام، وقال: ما ترك الغُلام لنا فى واحدة من الثلاث عذرًا، وأمر بفتح بيت المال وإعانة المحتاجين وأمر للغلام بمائة ألف درهم.
تؤكد هذه الحكاية وغيرها فى تراثنا العربى، أن الفقر والمجاعات لا تعود إلى الكوارث الطبيعية أو الحروب فحسب، وإنما تعود فى الغالب الأعم إلى رغد النُخبة، وإنها ـ أى المجاعات ـ لا تحدث لأن قوة إلهية أرادت ذلك، بل تصرفات البشر. 
ففى أجواء الغش والفساد والجشع والكذب والتدليس وغياب الضوابط التى تسود المجتمعات، يرتفع مستوى الأسعار وينتشر الفقر والجوع، وفى تلك الأجواء لا تعنى أرباح البعض غير الموت للآخرين، وبينما يعيش جزء كبير من المجتمع فى رفاهية يموت الآخرون جوعًا.
وفى كتاب «صناعة الجوع: خرافة الندرة»، يقول جوزيف كولينز وفرانسيس مورلابيه، استنادا إلى ما أشار إليه مؤرخ فرنسي: «المجاعات وفترات شُح الغذاء الفرنسية الكبرى فى العصور الوسطى حدثت خلال فترات لم تكن فيها المواد الغذائية شحيحة، بل كانت فى الحقيقة تُنتج بكميات كبيرة وتُصدر. وكان النظام والبنية الاجتماعيين مسئولين بدرجة كبيرة عن أوجه النقص هذه».
وليس صحيحًا ما يعتقده معظم الناس أن المجاعات التى شهدتها الهند فى القرن الماضى ترتبط بالمناخ السيئ، فقد اشتدت حدة هذه المجاعات فى ظل الاستعمار، وخصوصا خلال النصف الثانى من القرن التاسع عشر، رغم أن إنتاج الغذاء تزايد مع ازدياد السكان. فبعد افتتاح قناة السويس عام ١٨٧٠، أصبحت الهند مصدرًا رئيسيًا للقمح لبريطانيا ودول غربية أخرى ومصر.
وكما كتب السير جورج وات فى ١٩٠٨: «كانت الطبقات الفُضلى فى المجتمع تُصدر مخزونات الفائض التى كانت تُخزن قبل ذلك تحسبا لأوقات الندرة والمجاعة».
إن أكثر من مليون ونصف مليون من البشر، ماتوا بسبب المجاعة التى شهدها إقليم البنغال فى عام ١٩٤٤. فما الذى سبب هذه الخسارة الفادحة فى الأرواح؟
يقول الكتاب: كانت الأزمة الغذائية المباشرة قد نتجت عن متطلبات الحرب؛ ففى عام ١٩٤٣، أمر تشرشل الهنود وآلاف العسكريين البريطانيين فى الهند أن يعيشوا على مواردهم، وذلك حين قطع الغزو اليابانى لبورما المصدر الخارجى الرئيسى للأرز للبنغال وسائر الهند. وأدى الجفاف فى عام ١٩٤٢، إلى فقر محصول الأرز، لكن رغم ذلك كله، سمحت الحكومة الاستعمارية بتدفق الأرز خارج البنغال؛ حيث صُدر ١٨٥ ألف طن خلال الأشهر السبعة الأولى لعام ١٩٤٢. فذهب الغذاء حيث كانت النقود وتحققت عبر الطريق أرباح ضخمة. وبطريقة مماثلة صدرت الهند أرقامًا قياسية من الحبوب الغذائية خلال مجاعة قاسية فى عامى ١٨٧٦ ـ ١٨٧٧. 
وقد علقت لجنة المجاعة الملكية وهى اللجنة الثانية عشرة من نوعها خلال قرنى الحكم البريطانى، بقولها: «كان هناك الكثير من اللامبالاة فى وجه المعاناة. كان الفساد منتشرا فى كل المقاطعة».
يؤكد الكتاب أن الفقر والمجاعات غالبًا ما تقع نتيجة الإخفاق فى النظام الاجتماعى والاقتصادى لا إلى الأمطار أو الظواهر الطبيعية وحدها. فالمجاعة التى شهدها إقليم البنغال تكمن جذورها فى الركود الطويل الأمد للإنتاج الزراعى الهندى تحت الحكم البريطاني. فالاستثمارات القليلة التى وضعها البريطانيون فى الزراعة كانت موجهة إلى محاصيل غير غذائية. ومنذ منتصف القرن التاسع عشر حتى وقت مجاعة البنغال ازداد إنتاج المحاصيل التجارية غير الغذائية مثل القطن بنسبة ٨٥ فى المائة، بينما انخفض إنتاج الغذاء بنسبة ٧ فى المائة. وخلال نفس الفترة فى شرق الهند، بما فى ذلك البنغال، انخفض إنتاج الغذاء (الأرز) بدرجة أكبر، بنسبة ٣٨ فى المائة لكل فرد بين ١٩٠١ و١٩٤١، وكانت النتيجة أنه بحلول أوائل الأربعينيات أصبح إنتاج المحاصيل غير الغذائية يعادل تقريبا ثلث الإنتاج الإجمالي.
وفى إجابة عن سؤال: لماذا لا تستطيع الأمم إطعام نفسها.. لماذا الجوع؟ قال مؤلفا الكتاب: لقد شعرنا بارتياح عظيم للنتائج التى أوصلنا إليها الغوص فى الماضى؛ لأننا أدركنا أنه الطريق الوحيد للاقتراب من حل للجوع اليوم. فقد توصلنا إلى رؤية أن القوة التى تُولِد وضعًا معينًا، لا الوضع نفسه، هى التى يجب أن تكون هدف التغيير.
إن هذا السؤال يحمل نوعا من الحيرة إلا أن ما أدهشنا هو عدم وجود جوعى فى العالم إذا وضعنا فى اعتبارنا أن هناك قلة ظلت تعمل على مدى قرون للقضاء على قدرة الغالبية على إطعام أنفسها!
لا لسنا نصرخ قائلين (مؤامرة!) فلو كانت هذه القوى تآمرية تماما، لكان من الأسهل كشفها وكان كثيرون قد هبوا لمقاومتها. إننا نتحدث عن شيء أشد تعقيدًا وخبثًا، عن تراث من النظام الاستعمارى سعى فى ظله من يتمتعون بميزة سلطة ملحوظة لتحقيق مصلحتهم الخاصة، معتقدين بغرور دائمًا أنهم يعملون لصالح الناس الذين يدمرون حياتهم!