الإثنين 23 ديسمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

خلع عمامته الصعيدية وقرر المغادرة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
منذ يومين قرر جدي أن يغادر جدتي وأمي وبقية أبنائه وأحفاده بلا رجعة، ترك لهم عمامته الصعيدية وشاله وجلبابه وعصاه وشرائط كاسيت مسجل عليها جميع ليالي ياسين التهامي وغادرهم. كان قراره قرار رجل صعيدي ليس به تهاون وغير قابل للنقاش، هجر مدينته طما بسوهاج مطلع الخمسينيات من القرن الماضي بقرار حاسم مثل هذا بالضبط، لحظتها أخرج "نبوته" وحطم برج صديقاته الزغاليل كي لا تعدن إلى المنزل مجددا فلا تجده فتشعرن بخذلان، أخذ جدتي إلى مركب شراعي وأبحر بها في النيل المبارك موليا وجهه شطر بني سويف التي يستقر فيها عدد من أقربائه.
كان متجردا من جميع متعلقاته الشخصية إلا من "جوزته" وبعض شطائر الخبز الشمسي الذي أتقنت جدتي صنعه جيدا، وحينما لاح له في الأفق شبح هرم ميدوم ربط المركب عند هذه الضفاف ولم يغادرها مطلقا إلا منذ يومين فقط، جدي لم يعرف التنازلات يوما ما مثلا لم يغير لهجته الصعيدية ويتحدث مثل البنيسويفيين أو أن يخلع جلبابه ويرتدي مثلما يرتدون أو يفكر مثلهم أو يمارس عاداتهم وتقاليدهم؛ ظل طيلة معيشته في بلدهم متمسكا بأصوله ضاربا بالنكات التي يؤلفها البنيسويفيون للصعايدة عرض الحائط وربما ممارسات البنيسويفيين تلك وضعت حائلا بينه وبين اتخاذ أصدقاء مقربين له منهم سوى شخص واحد فقط مات منذ 20 عاما تقريبا يدعى أبو عاطف كان مسيحيا وامتزجت حياته بحياة جدي بشكل شبه كامل، الجد كان يقول على بني سويف بلد خير فحينما وطأت قدمه أرضها وذهب إلى أقربائه ليتعلم منهم حرفة "القِماشة" التي ستكون قدره الأبدي، عم الخير على الجميع حيث هبطت على أقربائه رؤوس أموال جديدة لم يتوقعوها أبدا تنازل لهم عنها أصدقاؤهم اليهود الذين كانوا يحترفون "القماشة" في تلك البلدة واضطروا لمهاجرة مصر بسبب ظروف السياسية حينها؛ الجد أتقن الحرفة جيدا وبدأ يأخذ لنفسه نهجا مختلفا فكان يحمل الأقمشة في علب كارتونية ضخمة ويذهب بها إلى القرى النائية في شرق النيل قاطعا المياه بقارب صغير ليبيع ويربح ويوسع من انتشاره الجغرافي ليستحوذ على جميع قرى مدينة الواسطى حتى أصبح أشهر قماشيها على الإطلاق منذ الستينيات وحتى التسعينات من القرن الماضي؛ أكسبته تلك المهنة وهذه الجولات حصيلة حكاوي ثرية ومدهشة كان يقصصها علينا منذ أن ظهرنا نحن الأحفاد على وجه الدنيا وحتى آخر يوم قضاه معنا لدرجة تشعرك أنه أحد أبطال الألف ليلة، كانت أكثرها بهجة بالنسبة لي تلك التي تتعلق بفترات ما قبل الأعياد حينما كان يحقق أرباحا جيدة فيقرر توزيع ما تبقى له من أقمشة على أطفال القرى الفقراء، كان يقول لنا: إن الأطفال كانوا ينتظرونه وكأنه بابا نويل وحينما يهبط القرية يهللون ويلتفون حوله كي يروا ماذا أحضر لهم من الألوان التي تسحرهم درجاتها وتنوعها، جدي كان يضحكني دائما بمواقفه، فأنا بنيسويفي لعين حقا، ذات مرة مثلا سقط أمامه ثعبان وهو يجلس مع صديقه أبي عاطف يشربان "الجوزة" فانتفض وخلع نعله ونزل عليه ضربا وتفاجأ أنه ليس ثعبانا بل حزام بنطال كان من ضمن الكراكيب التي يعرشون بها سقف الفناء الملاحق للمنزل، ومرة أخرى ماتت إحدى السيدات بالشارع في وقت متأخر من الليل وجاء أقرباؤها يجلسون في الشارع بجوار بعضهما البعض ينتظرون أن يأتي الصباح ليشيعوا جنازتها وكان يتبقى على الصباح وقت طويل فرجح جدي أن يوصل سماعات ضخمة لديه بالمسجل الخاص به ويخرج السماعات إلى الشارع من خلال شرفة غرفته ويلعب شريط قرآن كريم للشيخ طه الفشني، ففعل ذلك ودوى صوت الفشني في الشارع وطُرب الجالسون الحزانى لصوته وأثناء خشوعهم في الاستماع انقطع صوت الفشني فجأة وحل محله صوت مسجل لتتر برنامج أبلة فضيلة الذي كان يقول هذه النغمة: "وا وا.. أبلة فضيلة.. تاه تاه" ثم عاود الفشني قراءته وكتم الجيران ضحكاتهم بأعجوبة؛ -لك الله يا جدي كنت مبهجا حقا-؛ قبل أن يقرر المغادرة عنا بساعات استدعانا جميعا في اجتماع عاجل لا يقبل التأجيل؛ منا من استجاب وحضر ومنا مالم يستطع؛ لم يعاتب أحدا قص علينا أقاصيص جديدة لم يحكها من قبل كانت قصيرة جدا وكثيرة ومتنوعة؛ حكاوي مذ كان طفلا وفي لحظات الصبا ومع النيل وعن الزغاليل في سوهاج وعن أبي عاطف وعن جدتي التي كانت تتحامى فيه من العفاريت وعن القماشين ومغامراتهم وبعد أن شعر أنه أفرغ كل ما في جعبته من حكايات ودعهم واحدا واحدا وغادرهم إلى عالم لا نهائي من الأقمشة.. إلى مزيد من الحرير والدمور والكتان ومزيد من ألوانه ودرجاتها العجيبة: الأسود الغطيس والأخضر الزنان والأسود الشبح والأصفر الرنان والموجي والفئراني تاركا البنيسويفيين لمزاحهم السخيف مع الصعايدة؛ فإلى لقاء يا جدنا، هريدي سليمان بخيت سهيل "1928 طما -2018 الواسطى".