فى الوقت الذى يحتسى فيه قادة وزعماء الدول الكبرى خصوم الأمس فى القرن الماضى المشروبات الدافئة، ويرتدون ثياب تقيهم برودة الطقس فى باريس احتفالاً بمرور مائة عام على ذكرى الحرب العالمية الأولى كانت أصوات المقاتلات تثير الرعب، وحالة الفزع تنتاب الأمهات والعجائز، وهى تحلق على رءوس أبناء غزة تبحث عن أهداف تدمرها وشخصيات لتغتالها، إنها المتناقضات يا سادة نعيشها فى هذا العالم المجنون، الذى يرقص على جثث قتلاه، ويشرب نخب وفاة ضحاياه، وكأننا نشاهد ممثلين على خشبة مسرح العبث فى أجواء تدعو للحزن والرثاء على عقول ذهبت وضمير عالمى بات فى عداد المفقودين.
قرن قد مر على أول حرب عالمية عاشها العالم وتجرع مرارتها الملايين، وكانت منطقتنا مسرحًا كبيرًا لخدمة المجهود الحربي والصراع الدولي، وما بين تضحيات قدمتها، وموارد التهمتها الحرب جاءت المكافأة بخيانة التعهدات واستمرار الاحتلال لدول المنطقة وتقسيمها وفق اتفاقية (سايكس - بيكو)، مائة عام انقضت على ضحايا لقوا مصرعهم بالملايين بلغ تعدادهم على جبهات القتال تسعة ملايين، ومن المدنيين سبعة ملايين، وعشرة ملايين فى أوروبا لاجئون، ويبقى السؤال الأهم هل استفاد القادة الذين يحكمون العالم الْيَوْمَ من الدرس؟، وهل استفاد الحاضر من الماضى والواقع من التاريخ؟، بل لنسأل السؤال بصيغته الصادمة، هل انتهت الحروب العالمية إلى غير رجعة، أم أنها انتقلت بعد أن اتخذت أشكالاً أخرى إلى مناطق ودوّل أخرى خارج أوروبا التى كانت مسرحًا لحربين؟!!
بنفس عقلية الصراع تدار الأزمات بل وافتعالها إلى الحد الذى ينبئ عن كوارث جماعية فى مناطق كثيرة من العالم، وما يجرى فى منطقتنا فى هذه المساحة الجغرافية من العالم خير شاهد على سوء إدارة، وسوء نوايا، وسوء تدخل يصل لدرجة التواطؤ ممن نفترض فيهم الدعم، والمساندة حتى ولو دعما بالصمت وكف الأذى.
لا أصدق أن تشابك الأيدى - إيذانًا بأن صفحات الماضى المؤلم قد طويت - بين الرئيس الفرنسى ماكرون، والمستشارة الألمانية انجيلا ميركل فى الاحتفالية هو إعلان سلام عالمي، وصوت الأسلحة مازال عاليًا فى بؤر كثيرة من العالم تنكوى بنار الصراعات، ولا تخل الأيدى المتشابكة من تورط هنا أو هناك فى تلك الصراعات.
توقفت طويلاً أمام إعلان ماكرون عن (تشكيل جيش أوروبا) وكأنه يعلن فى الوقت الذى يطوى فيه صفحة دموية فى تاريخ القارة العجوز، عن بداية صفحة جديدة بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية فى حلف الناتو بين شركاء الْيَوْمَ والأمس والغد داخل القارة، وأبناء الحضارة الواحدة استنادًا لمصالح مشتركة فى الحاضر والمستقبل، هذا الطرح الذى أزعج ترامب كثيرًا ورد بتغريدات انفعالية كعادته متهكمًا على فرنسا التى (بدأت تتعلم الألمانية قبل وصول واشنطن) لتحريرها من النازية، وهكذا أطاح الرئيس الأمريكى فور عودته للبيت الأبيض بتغريدته رمزية الاحتفال على طريقة (كرسى فى الكلوب)، وقد وجدت ميركل الأمر يستحق التدخل بصفعة قوية لتسحق كبرياء وغطرسة ترامب بقولها (يجب أن نعمل نحو رؤية تشكيل جيش أوروبى حقيقى). مؤكدة ومروجة لفكرة ماكرون فى خطابها أمام البرلمان الأوروبى فى ستراسبورج، ولم ينته التراشق عند هذا الحد بل راح ماكرون من على متن حاملة الطائرات شارل ديجول يسدد سهامه، ويلقن ترامب درسًا قاسيًا: لا أعتقد أن الفرنسيين يتوقعون منى أن أرد على تغريدات بل أن أمضى فى كتابة هذا التاريخ المهم، ترامب لا يستهدف سوى الجماهير داخل الولايات المتحدة، وأعتقد أنه يمارس لعبة سياسية، وأنا أدعه يلعبها.. وستظل الولايات المتحدة حليفتنا التاريخية، لكن هذا لا يعني أن نكون دولة تابعة).
التكتلات السياسية الجغرافية والكيانات الاقتصادية تبحث عن تأمين نفسها بنفسها، وتدعو لاستقلالية فى سعيها لتحقيق هذا الهدف وهذه الاستراتيجية، فواشنطن لم تعد هى الضامن الأوحد لأمن العالم، وإن كانت صاحبة أكبر الجيوش عددًا وعتادًا، خاصة أن خريطة التحالفات، والمصالح العالمية تتغير بفعل تحركات قوى الشرق الأقصى، وتجذب نحوها الدول الباحثة عن التنمية والاستقرار والاستقلال، بعيدًا عن تدخلات تجلب الفوضى وتسعى للهيمنة والنفوذ، وهنا تبرز قيمة ما طرحه الرئيس عبدالفتاح السيسى من ضرورة إنشاء قوة عربية مشتركة للحفاظ على الأمن القومى العربى كقوة داعمة للاستقرار، وحماية ثروات الشعوب العربية من الطامعين فيها بغير حق من قوى إقليمية تهدف إلى نشر الفوضى وخلخلة التركيبة السكانية والجغرافية لدول المنطقة تمهيدًا للانقضاض عليها بعد تقويض أركانها.