لم يمر هذا العام دون أن يترك لنا مزيدًا من الحزن، بفقدان أحد أعمدة
الفكر السياسى والعسكرى، وأحد أبطال حرب أكتوبر المجيدة، فقد فارق دنيانا فى
الخامس من نوفمبر الماضى اللواء أركان حرب دكتور أحمد عبدالحليم الخبير العسكرى
والمحلل الاستراتيجى الذى كان رئيسًا لعمليات اللواء 15 مدرع بالجيش الثانى
الميدانى فى حرب أكتوبر، وأحد رجال الصاعقة والمخابرات الحربية، والذى شغل منصب
مساعد وزير الدفاع الأسبق، وعضو المجلس المصرى للشئون الخارجية، والمدير الأسبق
لمركز الدراسات الاستراتيجية للقوات المسلحة، كما كان عضوًا فى مجلس الشورى
لدورتين، إلى جانب مشاركاته فى الندوات والمؤتمرات التى تنظمها المراكز والهيئات
البحثية كمركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام، ومركز الدراسات السياسية بكلية
الاقتصاد والعلوم السياسية، ولأنه كان متحدثًا للإنجليزية بطلاقة لذلك كان تتم
الاستعانة به من الدولة فى المفاوضات والزيارات فى الخارج، حيث كان يتمتع بشخصية
دبلوماسية وعقل راجح وقدرة هائلة على المناقشة والإقناع، ولا يمكن أن ننسى دوره فى
التوعية بالظروف والأحداث والمؤامرات التى تحيط بالمنطقة العربية بعد 2011، فكان
يتنقل من قناة لأخرى رغم حالته الصحية، ويشرح بأسلوبه المبسط والسلس دون عصبية أو
انفعال، وكان يحتمل الآراء المخالفة، ويحترم أصحابها رغم ما يتمتعون به من جهل فى
كثير من الأحيان، ولم يكن ممن يحاولون مسك العصا من المنتصف كما يفعل الكثيرون،
ولكنه كان يعبر عن رأيه الحقيقى والموضوعى دون أن ينافق أو يهادن مع أصحاب الصوت
العالى، وقد عرفنا سيادته مستشارًا بأكاديمية ناصر العسكرية العليا، ومحاضرًا
ومعلمًا فيها، وكنت من سعداء الحظ، الذين تتلمذوا على يديه أثناء دراستى لزمالة
كلية الدفاع الوطنى، حيث حاضرنا فى الكثير من الموضوعات، ولم يبخل علينا بعلم أو
جهد، وكان يبهرنا بعقليته المستنيرة والواعية، ومتابعته لأحدث الدراسات والإحصاءات
فى المجالات السياسية والعسكرية، وتحليله للأحداث العالمية بخبراته العسكرية
ودهائه السياسى، وكان إلى جانب هذا يتمتع بوجه بشوش وقلب يملأه الرضا، وأبوة وحنان
يفرضا سطوتهما على من حوله، وروح مرحة وخفة ظل تعكس نقاءه وروحه الطيبة، وفى
المقابل يتمتع بجدية فرضتها تربيته العسكرية وغزارة علمه وتجاربه وخبراته، وتواضع
شديد يعكس رقى الخلق وعمق الشخصية، وكان لى الشرف باختيار سيادته لرئاسة لجنة
المناقشة والحكم لبحث الزمالة الذى قمت بإعداده، رغم أن مناقشته لم تكن بالأمر
الهين، ولكن زادنى الشرف بثناء هذا العالم الجليل على بحثى، وإضفاء بعضا من روحه
فى صفحاته من خلال ملاحظاته القيمة، وإضافاته لبعض النقاط التى أثرت من قيمة
البحث، ومنذ ذلك الوقت واعتبرنى من أبنائه، وكان يبادر دائمًا بالاتصال بى فى
المناسبات المختلفة، ويشعرنى بأنه سند وأب حقيقى لا يبخل برأى أو نصيحة، ومنذ ذلك
الحين لم ينسَ يومًا عيد ميلادى بل كان دائمًا أول المهنئين، وكان يمازحنى بأننى
أسد مثله لأنه برج الأسد، وكان لى الشرف بزيارته فى منزله والتعرف على السيدة
الفاضلة زوجته وشريكة عمره، والتى لم يتمكن الزمن من تبديل ملامحها الجميلة،
ورأيته كيف كان يعاملها برقى ورقة وحنان بالغ وحب لم يغيره العمر، فكان بحق معلما
للرجولة فى زمن عزت فيه شيم الرجال، ورأيته كيف كان يحنو على القطط التى تملأ
منزلهما بعد أن كبر الأبناء، وأصبح كل منهم فى منزله، لذلك أحببت هذه الأسرة وحزنت
بشدة لفقدان هذا الأب والمعلم والصديق الذى سيظل محتفظًا بمكانته فى قلبى، وفور
علمى بوفاته اتصلت على تليفونه الشخصى الذى كانت ترد عليه زوجته فى اغلب الأحيان،
حتى أعزيها وأسأل عن موعد العزاء، فأخبرتنى بأنه وصى بعدم إقامة عزاء، ليؤكد
للجميع حتى بعد وفاته مدى زهده وحكمته، فهو لم يرغب فى التكلف الذى أصبحنا نحياه،
أو أن يصبح بعد رحيله مجرد بطل لأحد سرادقات العزاء، والتى تحولت بكل أسف إلى مجرد
ملتقيات يتقابل فيها المعارف والأصدقاء، ليتبادلوا التحيات والكلمات، ويظهروا فى
الصور التى يتم التقاطها فى عزاء المشاهير والشخصيات العامة، دون اعتبار فى أغلب
الأحيان لهيبة الموت، الذى جعله الله من آياته، حتى نعتبر ونتذكر هوان الدنيا على
الخالق، وأننا مهما عشنا راحلون، لقد نعاه كل أبنائه وتلاميذه وأصدقائه وعبروا عن
مدى حزنهم بفقده، ولكننى لم أجد أجمل من وصف الكاتب سامح راشد أحد أبنائه، الذين
تعلموا على يديه، حيث نعاه قائلًا:
«أفنى عمره لرفعة وطنه والدفاع عنه بالسلاح فى جبهات القتال وبالكلمة فى ساحات الجدال»، رحم الله الأب والمعلم والقدوة اللواء أحمد عبدالحليم، ولا نملك الآن إلا أن نتذكره بكل الخير، وندعو المولى عز وجل أن يتغمده بواسع الرحمة والمغفرة، وأن يجازيه خير الجزاء عن كل من تعلم على يديه، وعن صحته التى لم يدخرها، وعمره الذى أفناه فى خدمة هذا الوطن.