الخميس 21 نوفمبر 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم

آراء حرة

خوف رنا التونسي يعرف كيف يجعل الأوقات سعيدة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا يدرك معظمنا عدد المرات التى شعر فيها بالخوف، أو عدد المرات التى مارس فيها التشكيك فى قدرته على تجاوز الأشياء التى يخشاها أو يتحاشها. لكننا ندرك جميعا أن بمقدور الخوف أن يستحوذ على زمام أمورنا كلها بلا استثناء وأن أصغر الأمور التى نريد القيام بها قد تشعرنا بالفزع والرعب.
لكن ما الخوف؟ 
تعرفه المعاجم اللغوية بتعاريف شتى، وأجمعت على أنه الفزع، أو ما يُضاد الأمن والأنس، ودلت على أنه الضعف. وقد انبثقت من لفظة الخوف اشتقاقات ثبتها المعجميون فى متونهم منها: الخيفة، المخافة.
وتوسعت المعاجم أيضًا فى ذكر مفردات للخوف اختلفت فى اللفظ لكنها تقاربت فى الدلالة وهي: الجبن، الحذر، الخشية، الذعر، الرعب، الرهبة، الروع، الفزع، الهلع، الهول، الهيبة، الوجس، الوجل. 
وعرفه فرويد بأنه فعل غريزى ووقائى منشؤه تأثير خارجي. ووصفه أرسطو بأنه ألم نابع من توقع الشر. وأرجعه التوحيدى إلى توقع مكروه، وانتظار محذور، والتوقع والانتظار إنما يكونان للحوادث فى الزمان المستقبل.
من الوحوش، والحكام المتسلطين، والمرض، والفقر، والجوع، والفقد، والموت، إلى الكوابيس عاش الإنسان منذ أن وطأت قدماه على هذه الأرض صراعًا مريرًا مع الخوف الذى يُعد واحدًا من أبشع الأحاسيس وأشدها قسوة عليه. لذا كانت إحدى مهامه الأساسية تكمن فى كيفية استعادة سيطرته على هواجسه المخيفة والتغلب عليها فكان الصراخ، والطبول، والموسيقى، والتعاويذ، والهتاف، والكلمة.
تاريخ البشرية لا سيما الشعراء حافل بالخوف إذ أن رعيلاً من الشعراء تعرضوا إلى وصفه فى قصائدهم.. وكانت القصائد التى ضمها ديوان «فهرس الخوف» لرنا التونسى الصادر مؤخرًا عن دار العين آخر ما وصلنا منهم.
الخوف لدى رنا التونسى ليس وليد موقف أو لحظة عابرة، وإنما تشكل رويدًا رويدًا وقطرة قطرة منذ لحظة ميلادها التى ترى أنها لم تخص أحدًا سواها: «ولدت فى منتصف العام/ فى وقت لا يهم أحدًا/ ولم تقع فيه أحداث كثيرة/ لكننى رأيت نفسى الآن/ فى صورة خائفة أحضرها ابني، وهو يسألني: «أين كنت؟ ماذا كنت تفعلين؟»/ أخبرته: كنت فى طريقى إلى والدك/ لنلقاك».
المسافة من لحظة ميلادها حتى اللحظة التى لاقت فيها وليدها مفروشة بالخوف قطعتها الذات الشاعرة، وهى تبحث عن مهرب وملاذ آمن ولأنها لم تعثر عليه، ولأنها لم تصادف سوى أشباح فكان العناق وسيلتها لدرء الخوف: «لا يمكننى أن أمنع الخوف من العمل/ لكنى أقابل كل شبح بالعناق».
الأشباح يحومون فى كل زاوية وسقف والفراغ هوة سحيقة تهدد بالتلاشي، تنذر بالفجيعة، بالجنون، تسعى الذات الشاعرة إلى مجرة غير تلك التى اختبرت فيها الوحدة والخوف علها تعثر على من يمنحها المؤانسة والطمأنينة وإن أخفقت فلا سبيل سوى التحرر بطعنة نافذة: «كنت أنظر إليك/ أحدثك من فراغ يملأ روحي/ كمن يبحث عن مجرة/ أو طعنة نافذة».
الطمأنينة غيمة، وإن لم تكن بمفردك فالعتمة لا تُخيف، فلديك من يؤنسك ويمنحك القُبل، ولكنكما ستظلان فى حاجة إلى التخلص من نفايات الأمس الثقيلة، والمدببة، التى تخترق الروح: «أريد أن أنتقل إلى بيت جديد/ تكون الذكريات فيه أصغر من أن تدخل إلى الباب/ نتركها للبائعين/ من يحملون بفرح/ القلوب الكسيرة». 
على الرغم من قسوة القلق والخوف واللاطمأنينة لكن الاعتياد عليها يجعلها شعورًا طبيعيًا ويصير غيابها غير مألوف للأرواح القلقة: أن أكون طبيعية/ ذلك ما يصيبنى بالجنون.
تحاول الذات الشاعرة أن تهز ذاكرتها علها تساقط عليها مطرا، ودمى، وشركاء طيبين، يعرفون كيف يملأون العالم كثرة. تفتش مرارا فى أيامها علها ترى زهرة وفى كل مرة لا تجد غير صحراء قاحلة. حياتها ثقيلة، والفراغ من حولها شبح هائل، ولا شجرة تستظل بشروشها، أو تختبئ خلفها. أتخيلها تقف قبالة الحياة والموت قائلة: كم أنت دميمة أيتها الحياة.. كم أنت وسيم أيها الموت.. وسيم كشاطئ هادئ، يريح القلب: «أتكلم عن الطفولة/ وأنا ألمس الطعنات/ عن البيت/ وأنا أشبه الرحلة/ الموت يشبه شاطئا جميلا/ أود أن أسبح بقربه». وتقول أيضا: «صعب أن أكتب قصيدة لا أتحدث فيها عن الأشجار/ الصحراء تملأ قلبى دائمًا».
الخوف يٌصيبنا بداء الهشاشة، العزلة تحيلنا إلى رقائق من زجاج خفيف، قابلون للكسر ولو لم يلمسنا أحد وفى الغالب الأعم هذا مصير الأرواح الطافية فوق مياه اللاطمأنينة: «أنا الشباك الذى يتكسر وحده/ قبل أن يفكر طفل/ أن يمسك حجرًا».
قصائد الديوان حددت بوضوح معالم الخوف الذى اكتنف الذات الشاعرة وعبر رحلة امتدت نحو اثنين وخمسين قصيدة، استطاعت الإفلات من قبضة هذا الشعور الناهب كما استطاع المتلقى الوقوف على حدود عزلتها، يتابعها عن كثب وهى تفتش عن الطفلة التى كانت، والأم التى مشت بعيدًا كى تلقى ابنها فى النهاية دون أن تلتفت إلى الحروف الأبجدية، التى تركتها مبعثرة على الأرض، لتنمحى أثر كلمة، وضحكة كادت تنجلي، وأصدقاء سوء، تعرف كيف تخلقهم كما تخلق الغمازات، والفراشات والضحك. 
فى فهرس رنا التونسى ينقلب الشعر على الخوف، يثنيه عن ملء الوقت بالألم والانزواء، يعلمه كيف يجعل الأوقات سعيدة.