هل حدثَ معك أمرٌ ما ذات مرّة، وسارعتَ بإيجاد تفسيرٍ سببى له؟ حسنًا عندما نقوم بأمرٍ ما بسببٍ عشوائى يقوم الدماغ بالإيعازِ بإيجاد تفسير ما لذلك، أى يقوم بتأليف قصةٍ تفسيرية لما قام به، لتبدو كأنها قصة كاملة. على سبيل المثال، تتأخرُ بالصدفة عن موعد الأتوبيس، فيوعزُ الدماغ مباشرة باختلاق قصة ما، مثل أن سبب تأخيرك هو استيقاظك المتأخر اليوم، أو أنّه سبب عدم ضبط الموبايل. يتأخر صديقك بالصدفة عن موعدكم، أو يتأخر بالرد على رسالتك، فيوعز دماغك لك بتفسير سريع أنّه منزعج منك، وأنّه بسبب جدالك معه اليوم السابق فقد تأخر عليك بالرد أو تأخر عليك بالنزول، وتشعر كأنّ هذا التفسير المختلق من دماغك بأنّه حقيقة فعلية، ويمكن أن تبنى عليها فى المستقبل قرارات أخرى، وقد يكون السبب الأصلى عشوائيًا بحتًا لا يتعلق بك أو بالآخرين، كتأخره بالرد مثلًا ببساطة لأنه نسى هاتفه صامتًا فعلًا، أو أنّ تأخره بالقدوم لأنه أضاع محفظته واستغرق وقتًا إضافيًا فى البحث عنها، أو ببساطة لسبب تجهله فعلًا.
تصبح الأمورُ أخطر حين نفسّر النجاح وأحداث المستقبل بناءً على الماضي، ومن ثمّ يختلقُ دماغنا تفسيراتٍ منطقيةٍ لحدوث ما يحدث معنا بسبب الصدفة، الحظ، التوفيق أو القدر، أو بكل بساطة حين يحدث أمر لا تعرفه كسبب لحدوث ما حدث. على سبيل المثال، يرشّحك أحدهم دون علمك لوظيفة ما، أو يقوم أستاذك الجامعى بتوصية لك للحصول على منحة ما، ومن ثمّ تقدّم على الوظيفة وتنالها أو تقدم على المنحة وتنالها، دون علمك بالمعلومة السابقة، فيقوم دماغك باختلاق تفسير يعتمد على ما قمت به، كأن يخبرك أنّ ذلك بسبب السيرةِ الذاتيةِ الرائعةِ التى قدمتها، أو بسبب رسالة التقديم الرائعة، أو لأنّك قمت بتدقيق رسالة التقديم عند مدققٍ أمريكى الجنسية مما جعلها كاملة، أو بسبب استيقاظك مبكرًا يوم المقابلة، وغير ذلك من التفسيرات المختَلقَة التى تُشعرك بالراحة النفسيةِ وتقوم بربط الأمور بشكل سببى لملء الفراغ الحاصل بسبب نقصان معلومة ما. وحين تمر بتجربة مشابهة تقوم بالقيام بنفس الخطوات التى قمت بها سابقًا مُغفلًا بشكل كاملٍ احتماليةَ وجود سببٍ مخفيٍّ لا تعرفه أصلًا، وما يحدث أنّك تكرر نفس الخطوات، ولأنّ السبب المخفيَّ لم يحدث فلا تحصل على نفس النتيجة بكل بساطة، والأنكى أنّك لا تعترف بوجود سبب لا تعرفه، وإنما تعود دماغك لاختلاق أسباب أخرى أو تبرير ذلك باتباع أسباب سابقة.
وما يزيد الطين بِلَّة، هو الوقوع فى مغالطة الشخصنة، حيث يستخدم الشخص قصصًا وتجارب شخصية كبرهانٍ على صحة أمر ما، وأنّها دليلٌ على صحة ما قام به، فيقول لك أحدهم مثلًا، «لقد درست فى مدرسة حكومية، ودخلت كلية الطب»، إذًا فدخول المدرسة الحكومية هو أحد أسباب النجاح الدراسى، ودخول كلية الطب، ويتجاهل عن عمد أنّ التجارب الشخصية تكون حالة واحدة من حالات كثيرة، فلا نستطيع معرفة ما إذا كانت هذه الحالة شاذة أو مشابهة للحالات الأخرى حتى نعممها للآخرين. الأخطر أيضًا هو اعتماد قصص الآخرين وأسبابهم المختلقة فى تقديرك للأمور، وهنا تقع فى فخ كبير، تسمع قصة نجاح أحدهم، ومن ثم يخبرك أسبابه التى يثق أنّها السبب فى ذلك (والتى اختلقها دماغه كما أسلفت سابقًا)، ومن ثم تقوم باعتماد تلك الأسباب وتكررّها، وتفاجأ أنّك لا تحصل على شيء، وبالعكس قد يتسبب لك ذلك بخسارة كبيرة جدًا.
فكلمة النجاح تلاحقنا ببجاحة فى كل مكان، وتساهم وسائل التواصل الاجتماعى بترسيخ مفاهيم تبسيطية عن النجاح ورواية القصص الرومانسية التدليسية عنه، والتى تسبب الإحباط لكثيرين لا يدرون بما يجرى وراء الكواليس، ومن ثمّ يعتقدون أنهم «فاشلون»، بينما أنّ كلّ ما فى الأمر أنّ هناك مبالغة وتضخيمًا، وحتى تبسيطًا كبيرًا فى تلك القصص، وتركيزًا على تكرار تلك القصص الناجحة، وتجاهل آلاف القصص الأخرى عن الفشل، والتى يمر بها الناس ولا ينشرونها علنًا بالطبع، مما يجعل قصص النجاح تبدو كأنها أمر طبيعى وبديهى مع الجميع.
تفتح فيسبوك وتجد صور صديقك وهو يحتفل بنيله شهادة تكريم مثلًا، أو بنشر ورقته العلمية فى مؤتمر عالمى محكّم فى دولة بعيدة، أو لربّما صورته وقد سافر لبلد آخر بغرض إلقاء محاضرة، ومن ثمّ لآخر قد حصل على منحة جامعية، وهلمّ جرًا.. ولكن هل فتحت فيسبوك ووجدت ذات مرة صورة شخص وقد نشر أنه فشل فى امتحان قيادة السيارات مثلًا؟ هل قرأت منشورًا عن شخص يتحدث عن رفض مقالته العلمية للنشر؟ أو عن شخص يحدثك عن خسارته الكبيرة فى شركته الناشئة؟ أو هل وجدت شخصًا حتى يتحدث عن مصاعب الطريق التى واجهها، هل قرأت منشورًا يقول فيه مثلًا: لقد استغرق منى الأمر عامًا من التحضير حتى كتبت هذا المنشور، أم تجد احتفالًا وكأن الأمر بسيطًا جدًا ولا يتطلب أكثر من سويعات عمل! يقرأ أحدهم عن بدء أحدهم عملاّ فى شركة ولا يسمع عن عشرات رسائل الرفض التى وصلت لذلك الشخص، وعن بقائه سنة بدون عمل مثلًا، أو عن جهوده الجبارة فى تعلّم تقنيات جديدة.
وعلى أي حال، فإن ارتباط كل شيء بكلمة نجاح مزعج حقًا، وأصبح مبتذلًا بعض الشىء، وخاصة حين اقترانها بتقليد إنجازات الآخرين، إذ يسبب ضغط الأقران، وخاصة مع فيسبوك ضغطًا نفسيًا بأن نجاح الشخص هو بتقليد نجاحات الآخرين، وينسى أنّ النجاح هو أمر شخصى يختلف من شخص لآخر.
فى الماضى كنّا مدفوعين للنجاح لكى تتم مقارتنتا بأولاد عمومتنا وأولاد الجيران وأولاد الأصدقاء لا أكثر ومهما زاد العدد فلن يصل لـ٢٠ بأحسن الأحوال آنذاك. أمّا اليوم، فلدى كلّ شخص حوالى ١٠٠٠ صديق فيسبوكى على الأقل، ومنهم لا يعرفهم بشكل شخصى حتى، ويقرأ كل يوم إنجازاتهم (والتى قد تكون وهمية)، ويرى أفضل صورهم (التى تأتى بعد ١٠ صور فاشلة على الأقل)، ومن ثمّ ينال ضغطًا مجتمعيًا غير مباشر وهائل لمحاكاة نجاحاتهم، وأن نجاحه فقط هو فى محاكاة ذلك لا أكثر. يرى بعض الأصوات التى نالت منحًا دراسية فيعتقد أن النجاح هو بإكمال الدراسة، ويغفل أنّه لا يرى عشرات الأشخاص الناجحين فى عمل آخر لأنهم ببساطة لا وقت لديهم ليكتبوا ذلك على فيسبوك فلا ينتبه لهم أصلًا.
أعتقد أنّ النجاح يحتاج لفلسفة ودية أكثر، متسامحة أكثر، فقد يكون مجرد البقاء على قيد الحياة هو نجاح بحد ذاته بالنسبة للبعض، ولا يمكن أن نكرر جميعنا قصة الصينى «جاك ما» مؤسس شركة على بابا، ولا يمكن دومًا اجتزاء تلك القصص وتكرارها فهى مجرد قصص تحاكى ظروف أصحابها، وتكرارها بشكل ساذج هو أمر أكثر سذاجة، ويجعلنا نخاف من الفشل لأننا نخاف من حكم الآخرين، وكما يقول الين دى بوتون فى حديث له: «اكبح جماحك عند الحكم على الناس. ليس بالضرورة أن تكون على علم بالقيمة الحقيقية لشخص ما. فهذا جزء مجهول منهم. ولا يجب علينا أن نتصرف كأنه معلوم، هناك مصدر آخر للراحة والعزاء لهذا كله. عندما نفكر بالفشل فى الحياة، عندما نفكر بالفشل، أحد أسباب خوفنا من الفشل هو ليس فقط خسارة فى الأرباح أو خسارة فى المرتبة. ما نخشاه هو حكم الآخرين وسخريتهم. وهذا موجود حقًا».
لا يمكن بالطبع أن نكون ناجحين فى كل شيء، وإلا لكانت الحياة مثالية، ولا يمكن إغفال الظروف، القدر، الحظ، الصدفة، البيئة المحيطة، جواز السفر والدول التى تدخلك بدون فيزا!، لذلك يمكن أن أختم أيضًا يما يقوله إلين دى بوتون: «لا يمكنك أن تكون ناجحًا فى كل شيء، إنّ أيّ مفهوم عن النجاح يجب أن يتضمن خسارة شيء آخر فى المقابل، أى يتضمن مفهوم النجاح عنصر خسارة ضمنه، والشيء الآخر عن الحياة الناجحة هو أنه فى معظم الأحيان يكون مفهومنا عن ماذا تعنى الحياة الناجحة هو ليس مفهومنا الخاص بنا، وإنّما فقد قمنا بتبنيه من قبل الآخرين بصورة عامة، علينا أن نتأكد أن مفاهيمنا عن النجاح هى مفاهيمنا الشخصية حيث علينا أن نفكر بأفكارنا نحن، ونتأكد تمامًا أننا نحن الذين نريدها ونحن الذين صنعناها أى أننا نحن صناع طموحاتنا.. لأنه من السيئ ألا تحصل على ما تريد، ولكن الأسوأ من هذا ألا تكون لديك فكرة عما تريد».
وفى نهاية تلك الرحلة خلف تلك الفكرة تجد نفسك قد لاحقت الفكرة الخاطئة.. لأنها لم تكن فعلاً ما تريد.