«سامحونى، لم أعد أحتمل الحياة»! استيقظ الفرنسيون وكل العالم على تلك الرسالة الشهيرة، التى تركتها النجمة «داليدا» الإيطالية بنت شبرا قبل انتحارها بتناول جرعة قاتلة من الأقراص المهدئة فى منزلها بحى «مونمارتر» الأثرى فى باريس عام 1987! ربما لم تكن المأساة الأولى فى تاريخ البشرية! لكن المُؤسف والمُخجل أن تصبح المأساة المتكررة فى حياة المصريين فى الآونة الأخيرة!
تُعيد «أميرة» تفاصيل مشهد النهاية فى فيلم «نهر الحب» المحفور فى وجدان كل المصريين! ترصدها الكاميرات واقفة على رصيف المحطة، ومع دخول القطار، تقفز أمامه! لم تفكر لحظة فى التراجع، بل ظلت واقفة! حتى دهسها تحت عجلاته الحديدية!
يصفع الشاب «حازم عبدالمنعم» أفراد عائلته، ونحن معهم، برسالة وداع على صفحته الشخصية: «طول عمرى راجل، بس انتم موِّتم كل حاجة فىَّ»! قبل أن يلقى بنفسه فى النيل! مثل عروس أجبرت على إلقاء نفسها حية فى الأسطورة الفرعونية القديمة!
تهرب الناشطة «زينب مهدى» شنقًا من غرفتها الصغيرة الخانقة، التى لم تستوعب عالمها الرحب وآمالها المتفتحة! بعد آخر عبارة لها على «الفيس بوك»: «تِعبْت، اسْتُهلِكت، مفيش فايدة»! مثل ملايين الشباب المنطفئ حسًا وفكرًا ووجودًا فى البيوت والشوارع وعلى المقاهى وحتى المكاتب المكيفة!
تشهد مصر تزايدًا غير معتاد فى حالات الانتحار، لم تذكر أى جهة رسمية أرقامًا حقيقية عنه حتى الآن! لكن الكابوس المفزع فى تصورى هو انتحار المصريين معنويًا؛ سيادة الهلس والتفاهة والسخافة، الشعور باللا مبالاة وباللا جدوى واللا فائدة، الفرار من مراقبة الذات وانتقادها وتغييرها، التخاذل والخمول والانكفاء، الانغماس فى دوامة يومية رتيبة، مكررة وباهتة ومتهالكة، الغرق فى أفكار مُضلِّلة وأفعال ومشاعر زائفة، فارغة من أى قيمة أو معانى صادقة، تغلغل سموم الفوضى والسوقية والنمطية المهلكة!
هل أصبح الملاذ الأخير أن يساق المصريون إلى الموت روحًا وعقلًا وجسدًا؟! بعد تردى الأوضاع الاقتصادية، تعثر الحياة السياسية، انتكاس الأنظمة التعليمية، الهزيمة النفسية والاجتماعية، الانحطاط الثقافى والأخلاقى، الخواء الذى يسكن أفرادًا معطلة، بلا مشروع أو حلم أو هدف، توحش أسئلة متراكمة، لا تجد لها أجوبة ناجزة!
هل أعلن المصريون الرحيل؟! هل عجزت مصر عن حماية أبنائها من مخالب الاكتئاب والإحباط واليأس؟! هل عجزت عن تحقيق الحد الأدنى من أمنياتهم المتواضعة؟! هل تصاعد حد العنف إلى درجة العنف الموجه إلى الذات؟! هل صار المجتمع عجوزًا، تطرد تجاعيده صفاء شبابه؟! هل أغلق كل أبواب الحياة فى وجوههم، فلم يجدوا سوى بابًا واحدًا مفتوحًا هو «الانسحاب من الحياة»؟!
المدهش رغم كل شئ هو شعاع «الأمل» الذى ألمحه فى عيون كل البسطاء، وهذا الطفل الصغير، مهترئ الرداء! الذى يجلس على رصيف المحطة، يعانق كراسه، بجانبه كتبه وأقلامه وأكوام متراصة من المناديل! لم يلتفت إلى ضجيج المارة! لم يتحسر على بؤس حاله ورغد عيشهم! لم يكسره الفقر أو الجوع أو التعب! همس لى فى رسالة صامتة: لا تيأسى، حددى هدفك، استمرى، لا تنحرفى عنه، لا تنظرى إلا فيما يجب أن تفعليه!
إن عبقرية تاريخ المصريين، ثوراتهم ضد أغلال الاستعباد، إبادة روحهم الساخرة قسوة أزماتهم الطاحنة، تمنحنى اليقين دومًا فى قدرتى وقدرتهم على استرداد إرادة الحياة مرة أخرى! ربما هذا هو السر الذى تعلمه منا كل العالم، ولم نكتشفه نحن حتى الآن!