قد نحتاج عقدًا كاملًا من الزمان، حتى نجد شابًا يقول بكل فخر عندما يُسأل عن مؤهله الدراسى أنا خريج دبلوم صنايع أو معهد فني.
مرة أخرى يظهر الرئيس عبدالفتاح السيسى فى حواره مع الشباب كمثقف وباحث مدقق فى علم الاجتماع، يغوص فى أعماق مشكلات المجتمع المصري، وقادر على تشخيصها وشرحها، مدركا لتداعياتها، وطارحا لمنهج التعامل معها.
أغلب ما ورد فى مداخلات الرئيس أثناء جلسات منتدى شباب العالم بشرم الشيخ، يستحق التعليق والتحليل، وقد أتطرق إلى جانب منها فى الأسابيع المقبلة، خاصة أن بعضها مرتبط بأحداث وقضايا محلية، والأيام المقبلة «حبلى» بالكثير من التطورات والتداعيات بشأنها.
لكن دعوة الرئيس المجتمع إلى تغيير ثقافته تجاه خريجى مدارس ومعاهد التعليم الفنى، كان أكثر ما يستلفت الانتباه، فحديثه تعلق بشريحة من الشباب ربما لم تكن ممثلة على نحو جيد فى منتدى شرم الشيخ، بل وربما لم تمثل فى مؤتمرات الشباب السابقة.
لا أظن أحدا ينكر حقيقة أن نظرة المجتمع لهذه الفئة من الشباب دونية، ولعل معظمنا كان شاهدا على وقائع رفض عريس لمجرد أنه خريج دبلوم صنايع أو معهد فني، وأغلب العائلات تفضل العريس حامل المؤهل الجامعي، وهناك مقولة سائدة بين معظم الشباب «دخلت الجامعة للفوز بشهادة أتجوز بيها».
قد تكون مثل هذه المواقف الأكثر تجسيدا لحقيقة نظرتنا لخريجى هذا النوع من التعليم، لكن تداعياتها الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية تذهب إلى أبعد من ذلك بكثير.
دعوة الرئيس تحتاج إلى جهد كبير، وتراكم لكثير من الأمور ليس أولها تطوير التعليم الفني، كما أن العمل على خلق مجتمع واعٍ ومثقف ليس آخرها.
وحتى تكون بداية الاستجابة لهذه المبادرة سليمة قد يكون من المناسب عدم الاكتفاء بتوصيف المشكلة والرجوع إلى أسبابها الرئيسية، ثم محاولة فهم وتحليل تداعياتها.
مراجعة تجارب الماضى البعيد تقودنا حتما إلى الوعى بأساس المشكلة، فعندما أقرت الدولة المصرية مجانية التعليم فى كل مراحلة بعد ثورة 23 يوليو من عام 1952، كان الالتحاق بالتعليم الجامعى سبيل أبناء الطبقات الفقيرة والمعدمة إلى الترقى الاجتماعي، وبالفعل شهدت مصر حراكا اجتماعيا كبيرا نشأت معه الطبقة المتوسطة الحديثة بعد أن تمكن أبناء الفلاحين الفقراء من استكمال تعليمهم والحصول على أعلى الشهادات، ومن ثم الفوز بالوظائف الإدارية داخل جهاز الدولة ومؤسساتها وهيئاتها الحكومية بما فى ذلك شركات القطاع العام.
قطعا لم يكن ذلك التوجه خطأ فى حد ذاته، لكن تعهد الدولة بتعيين كل خريجى الجامعات، وإهمالها التعليم الفنى والصناعى كدس الجهاز الإدارى بالموظفين حتى وصلنا إلى مرحلة المعاناة من البطالة المقنعة، أى أعداد غفيرة من الموظفين الذين يتقاضون رواتب شهرية دون عمل حقيقى فى المقابل.
وحتى مصانع وشركات القطاع العام تكدست بالموظفين الإداريين، وفاقت أعدادهم العمال والفنيين والحرفيين.
وهناك عشرات التقارير والدراسات التى رصدت هذه الظاهرة مبكرا فى منتصف ستينيات القرن الماضى، ومع ذلك لم تتخذ الدولة الإجراءات اللازمة لتفادى مخاطر تفشيها.
الغريب أن الدولة شهدت فى تلك الآونة نهضة صناعية كبيرة كانت تتطلب على الأقل اهتماما موازيا بالتعليم الفنى والصناعى، لكن الاحتفاء بالمؤهل الجامعى وتحويله إلى قيمة اجتماعية حال دون ذلك.
وقد أشار الكاتب والأديب ابن التجربة الناصرية يوسف السباعى وزير الثقافة الأسبق، إلى تلك المشكلة فى منتصف السبعينيات من القرن الماضى، وطالب بضرورة معالجتها بإعلاء قيمة التعليم الفنى والصناعي.
صحيح أن الدولة اعتمدت على خريجى الجامعات فى بناء قدرات الجيش المصرى؛ فقد كانوا الأكثر قدرة على التعامل مع الأسلحة الحديثة والمتطورة خلال حربى الاستنزاف وأكتوبر 1973، ومع ذلك خسرت الدولة الكثير من عدم اهتمامها بتعليم يسهم فى تنمية المهارات الفنية والصناعية، فمع الوقت فقدت مصر العمالة المدربة والماهرة التى تحتاجها فى مصانعها، كما تراجعت قيمة الصنعة عند المصريين، كذلك تراجعت قيمة الحرفى كإنسان لصالح الموظف صاحب المستقبل المضمون بوظيفته الميرى وراتبه الشهرى وأرباحه السنوية ومعاشه المؤمن.
مع تضخم الجهاز الإدارى وشركات القطاع العام، بدأت تظهر أمراض البيروقراطية بدءًا من الإهمال والتكاسل، وصولا إلى الرشوة والاختلاس، ثم ظهور نظرية على «قد فلوسهم» مع تغير الظروف الاقتصادية وارتفاع الأسعار، وقد انتقلت الإصابة بعدوى هذه الأمراض إلى الفنيين والحرفيين سواء داخل مصانع القطاع العام أو خارجها.
وكرد فعل للرشوة التى يضطر الحرفى أو الصنائعى لدفعها من أجل إنهاء معاملاته الحكومية، قام برفع أجره وإهمال عمله، أو بالأحرى تعمد عدم إنجاز عمله على الوجه المطلوب سواء كان سباكا أو كهربائيا أو ميكانيكيا حتى يضطر الموظف المرتشى من وجهة نظره للعودة إليه مرة أخرى.
الدولة من ناحيتها أهملت تخريج جيل واعٍ ومثقف من الجامعيين، ذلك أن منهج الحفظ والتلقين انتقل من مراحل التعليم الابتدائى والإعدادى والثانوى إلى التعليم الجامعي، لنجد أنفسنا أمام أجيال فقدت تدريجيا قدرتها على الوعى، ومن ثم الفعل الاجتماعى السليم، لينهار المعنى الحقيقى للطبقة الوسطى، ولم يعد هناك فارق يذكر بين من أتم تعليمه الجامعي، ومن اكتفى بـ«دبلوم الصنايع» أو حتى تعلم حرفة فى إحدى الورش.
والمحصلة لهذه المنظومة مئات الآلاف من خريجى الجامعات الذين لا يجيدون القراءة والكتابة، ومثلهم من خريجى الدبلومات الفنية الذين لم يتعلموا حتى الصنعة؛ فقد تم إهمال مدارسهم وأصبحت مجرد مبان دون أدوات للتعلم، ومع ذلك ظل خريج الجامعة محتفظًا بأفضليته على الحرفى والصنائعي.
بمرور الوقت، اختفت الورش التى كانت توفر تدريبا وتعليما للحرفيين فى كل المجالات، وكانت بمثابة مدارس غير نظامية لتخريج أسطوات مصر، وراح أغلب الناس يوجهون أبناءهم الذين فشلوا فى استكمال مراحل تعليمهم إلى العمل فى مجالات جديدة تحقق مكاسب مالية كبيرة وسريعة دون أن يضطر الشاب إلى تعلم صنعة، بدأت ببيع مكالمات التليفون المحمول وانتهت بالـ«توك توك».
إنشاء معاهد تكنولوجية حديثة وتطوير التعليم الفنى بالتنسيق مع ألمانيا، واعتماد شهاداتها من الدولة الصناعية الكبرى، كما أعلن الرئيس، سيظل غير كاف ما لم تستعد الحرفة والصنعة مكانتها الاجتماعية، وطالما ظلت الشهادة الجامعية عنوانا مزيفا للأفضلية والتميز، وكل ذلك لن يتغير إلا باستعادة قيمة العمل فى ثقافتنا.