إنه مقام الحزن الكبير، مقام الدم والبراءة، وقلوب الأمهات المنفطرة، مقام من سيذكروننا أمام عرش النعمة. ومقام آية (بأى ذنب قتلت) ومقام ماريا القبطية زوج النبى محمد وأم ولده إبراهيم، ومقام عمر بن الخطاب الذى صلى خارج الكنيسة لا داخلها حتى لا تتخذ سُنة من بعده وتتحول إلى مسجد. مقام حديث رسول الله «استوصوا بأهل مصر خيرًا، فإن لهم نسبًا وصهرًا» والنسب من جهة هاجر أم إسماعيل، عليه السلام، والصهر من جهة ماريا القبطية، رضى الله عنها. ومقام قول الرسول إن من قتل منهم أحدًا فلن يجد ريح الجنة ومقام أوامر الإله العلى الذى خلقنا جميعًا من نفس واحدة لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الممتحنة: ٨، ٩. فهل قاتلوهم فى دينهم؟ وأخرجوهم من ديارهم التى لا نعرفها؟ وهل ظاهروا عليهم؟ وهل هم موكلون بما نهى الله عنه باسم الدين والدين منهم براء؟! إنه مقام الغضب الذى لا يهدأ والثأر الذى لا ينام والحقائق الجلية لأهدافهم الخبيثة لهدم الوطن وتعميق الجروح وزعزعة الإيمان بالدولة، وإحداث بلبلة وترويع وتخويف وتشويه صورة مصر فى العالم، وجميعنا يعلم ذلك لكنهم لا يعرفون عصر الشهداء لا يعرفون جبل الطير لا يعرفون الكنيسة القديمة تحت الكنيسة المعلقة ولا يعرفون حصن بابليون لا يعرفون السنكسار بتقويمه القبطى الذى ما زلنا نزرع محاصيلنا وفقه بل ربما لا يعرفون أن كلمة قبطى تعنى «مصرى» بل لا يعرفون مصر.
إنه مقام الثورة المستمرة على الإرهاب الحقيقى الذى يعشش فى عقولهم وعقول كل من يشاركهم أو يتفق مع أفكارهم أو يصمت حيال كل ما يراه وما يفاجئنا من ضربات لنا جميعا لن أقول للمسيحيين فقط لأن حادث مسجد بئر العبد ساوى بين المسجد والكنيسة حيث لا فرق عندهم بين هذا وذاك. التى لا تخمد ولن تخمد إلا عندما نستأصل شأفته، لا تقتلوا باسمنا لا ترهبوا باسمنا ولا باسم الدين. أكتب الآن وذكريات كثيرة تتردد فى رأسى كومضات ساطعة أسماء وأحداث أفراح وجراح أمهات وجدات وابنى الذى كنت أتركه فى مدارس الأحد حينما كان طفلًا مع بنت صديقتى دونما خوف، أكتب عن وقوفى فى إكليل فاتن سمير كأخت لها وأخى كان يقف بجوار أخيها لتلقى التهنئة. أكتب عن والدتهم كريمة عوض تلك الأم الحنون التى كانت لا تنام حتى تطمئن على حضورنا أنا وأخى من الجامعة منصتة لخطواتنا على السلم، وهى التى كانت تمشى بصعوبة حتى تفتح لنا باب شقتها، وتصر على أن نفطر عندهم فى رمضان، بينما كانوا صائمين لا لحوم ولا بيض ولا لبن، وكل ذلك يعد لنا فقط. أكتب وأنا أتذكر كلماتها: «ولادى مكانوش ينزلوا من بطنى غير لما أم أحمد جارتى تكون جنبى حتى لو كنت فى المستشفى»، أكتب وأنا أتذكر أننى تعرفت عليهم قبل أن ننتقل إلى الإقامة فى شقة المنصورة تعرفنا عليهم كجزء من علاقات العائلة كجزء من الحياة ونحن صغار. أكتب وأنا أسمع صوتها تقول جدتك كانت صاحبة أمى وأنا صديقة عمتك وأنت صديقة فاتن ابنتى. أكتب وأنا أضحك كلما تذكرت أن الدكتور نبل المنشاوى صديقهم أراد أن يزوجنى لطبيب أسنان مسيحى من معارفه على اعتبار أننى مسيحية من أقاربها وعندما قالت له إننى مسلمة ضحكت أنا أكثر أكثر، وقلت لها «هو دكتور نبل مسلم؟ والله كنت فاكراه مسيحى من أصدقائكم»، هكذا كان الأمر لأنه الدين المعاملة والمحبة والتسامح واحترام عقيدة الآخر هو الجوهر الحقيقى لعقيدة المصريين مسلمين ومسيحيين. أعلم أن ما حكيته ربما لا يختلف كثيرًا عن حكايات عندنا جميعًا عشناها أو كنا شاهدين عليها أو سمعناها ولم نكن أطرافًا فيها. أكتب وأنا أشكر المحامى النابه الدكتور وائل غالى فى مساندته القانونية لى فى قضية استعادة كرامتى حينما مررت بظرف عصيب فى مقر عملى وتعرضت لتهديد وإهانات وخذلنى الزملاء بكتمهم للشهادة، أكتب وأنا أحتضن روفان نبيل ابن جيرمين صديقة فيسبوك وأقول له لا تخفِ إن مصر بخير، أكتب لريموندا ماهر الزهرة المتفتحة للحياة وللصحفى الكبير الذى يحب مصر حد الوجع حازم ماهر أكتب للجميع. أن المشهد واضح وأن الدولة لن تسمح لهم أن يتمادوا ولهذا لا أجد نعيا أوفى من نعى رئيس الجمهورية الذى قال فيه: «أنعى ببالغ الحزن الشهداء الذين سقطوا اليوم بأيادٍ غادرة تسعى للنيل من نسيج الوطن المتماسك.. وأتمنى الشفاء العاجل للمصابين، وأؤكد عزمنا على مواصلة جهودنا لمكافحة الإرهاب الأسود وملاحقة الجناة.. هذا الحادث لن ينال من إرادة أمتنا فى استمرار معركتها للبقاء والبناء».