فى مثل هذا الشهر والتوقيت كنت العين على مكان إجراءات الانتخابات النصفية الأمريكية (2010- رئاسة أوباما) بولاية سيراكيوس- نيويورك لفت انتباهى فيما شاهدت فى بعض ولايات أمريكا الهدوء الكبير الذى شاب الانتخابات قياسًا بما أتابعه وأقرأ عنه فى كثير من دول العالم، لا صور للمُنتخبين ملصقة على الحوائط أو مصفوفة منتصبة فوق أرصفة الشوارع، لا لوحات لا مطويات وملصقات بلا حساب لعدد أو لتكرار العبارات والصور تمتدح المرشح، لا مسيرة أو مظاهرة أو هتاف باسم أحدهم فى خيم تملا الشوارع والساحات، لا عراك أو مجادلة أو حتى تبادل لوجهات نظر قد تصل إلى حد التلاسن انحيازا لمرشح عن آخر، عندهم ضع صوتك فى الصندوق وأذهب إلى شئون حياتك. فى أمريكا كان الضجيج الواسع والذى يشكل فضاء يصل حد الإزعاج والضجر: الإعلانات التليفزيونية، والمقابلات التى يُكرر فيها المرشح الوعود والأماني ذاتها.
شاهدت مرشحة ألاسكا فى أكثر من محطة تليفزيونية حتى ظننت أنها فى أحد أيام الانتخابات لم تعد إلى بيتها!، تلك الساعات الإعلانية تنفق عليها المليارات من الدولارات على مستوى الولايات، أرقام خيالية ذُكرت فى أثناء اللقاءات والحوارات الجانبية مع السياسين والصحفيين- وفى يومنا هذا ترامب الملياردير يعمل كنجم تليفزيون وتلاحقه تهم دعم روسى، فهل الحرية والديمقراطية رهينة الأموال الأمريكية التى يتم تبذيرها من أجل الفوز فى الانتخابات، والسؤال الأكثر إلحاحا من أين تأتى تلك الأموال؟، وهل كل المنتخبين هم من أثرياء أمريكا، أم أن هناك من يقف خلفهم؟ وهل هناك مُساءلة أو رقابة عن كيفية صرف الأموال التى تأتى من شركات القطاع الخاص، وبعض القطاعات التى تدعمها الدولة أحيانا؟
كانت الانتخابات الشغل الشاغل للمؤسسات التعليمية الإعلامية التى زرناها كصحفيين ببرنامج منحة «إدوارد مورو» التدريبية (بدأ البرنامج عام 1949م) والموضوع الرئيس الصحافة الاستقصائية، فقد تم تقسيم الحضور المشارك الذى قارب 150 صحفيا من مختلف قارات العالم حسب اللغة والجغرافيا على عدة ولايات أمريكية تخوض الانتخابات النصفية، حتى بدا لنا الأمر كأننا مُنتخبُون أومُنتخِبين، فمن ناحية كان على طلبة الدراسات العليا بقسم الصحافة أن يتابعوا صعود أصوات (أرقام) المرشحين وهبوطها: على النت أو على قنواتهم التليفزيونية أو بالحضور الشخصى إلى المراكز (عمل ميدانى أعلمونا فى جامعتى نيوهاوس وسيراكيوس بأن على 150 طالبا ملاحقة الانتخابات ونتائجها، تسمى اصطلاحا القصة أو السيناريو)، والتى أظهرت صعود الجمهوريين على الديمقراطيين فى الساعات الأولى، ومن ناحية أخرى اعتمد أغلب الأساتذة الذين تكفلوا بإدخالنا كتلاميذ ضمن جدول يومهم الدراسى على الإسهاب والتفصيل فى تبيان طريقة الانتخابات وبكل تعقيداتها، كيف تبدأ ومتى؟ الحقوق الخاصة بالتعديل الأول للدستور، والتشريعات المنصوصة من الكونجرس، والخارجية، والقضاء أيضًا، وفرشت أمامنا خريطة أمريكا بالكامل وتوزيع الولايات والمقاطعات التى عليها أن تجرى انتخاباتها الرسمية الثلاث (مجلس الشيوخ، ومجلس النواب، ورؤساء الشرطة) ومواقع مكاتب الاقتراع، ومن ناحية أخرى دُعينا للوقوف عن كثب على الآلية الإلكترونية التى تبدأ من الصباح وحتى التاسعة ليلا موعد الرصد النهائى للأصوات وعلى من يرسو الاختيار أو الانتخاب، خصصت غرفة بالفندق للمشاهدة، وكذا تمت الدعوة لحضور الاحتفال بفوز منتخب المقاطعة.
كان انحيازى إلى الحضور الميدانى لتلك الممارسة الديمقراطية وكانت عينى (كما الكاميرا التى وثقت بها) ترقب كل الآليات المُتبعة، وعمليا شاركت فيها خطوة بخطوة، وطرحت أسئلتى حول مُراقبتها ومصداقيتها (وفى ذهنى ما حصل من تزوير أثناء انتخاب بوش الابن) وإلى مدى ثقة الجمهور فى نجاح مُنتخبه وفوزه دون تدخلات من تحت الطاولة (أموال رجال الأعمال والأثرياء)، وعن مدى استجابة الجمهور الأمريكى للوائح والقوانين التى تركز على آلية الانتخاب، وقد سرد لى ولزملائى المفوض (دين) فى ولاية سيراكيوس- وسط نيويورك عن تراجع بعض جمهور ولاية ما عن انتخاب مرشح لم يشارك فى التصويت سابقا، ولم يحمل بطاقة أيضا وهذه السنة قدم نفسه كمرشح!، وأخبرنا أيضا أنهم يذللون كل الصعاب التى قد تصادف أى مُنتخِب، فالمعاقون والعجزة يتم التطوع بالذهاب إلى عناوينهم وملء الاستمارة بمعيتهم، وإذا صادف أحدهم ظرفا وغادر ولايته بإمكانه أن يبعث ببطاقته الانتخابية عبر البريد التقليدي، وليس البريد الإلكترونى (الإيميل غير معترف به).
كنت وبمجرد إعلامى بأنى مُرشحة للمشاركة كصحفية ليبية فى هذه الدورة، بحثت عن ولايات أمريكا، مشاهد وصور وأشرطة مصورة (يوتيوب)، ومعلومات من أصدقاء مسافرين وعائدين، قرأت عن سياساتها وهيكلها التنظيمي، ولأمريكا فى ذهنى أيضا صُور مُسبقة أكثرها تدخلات تعسفية ظالمة فى شئون الدول، وحروب لم تتوقف، ونهب لثروات الشعوب، وسعى لا حدود له؛ لتكون قطب العالم الأقوى بلا منازع وبأى ثمن، كم من ضحايا بشرا وطبيعة لأمريكا المُتحضرة وسياساتها العنيفة عبر تاريخها، أمريكا التى يصورونها لنا آمنة مستقرة بداخلها، هى أمريكا التى تُصدر وتعلن العنف والإرهاب خارجها، الداعمة للكيان الصهيونى!.